منذ مئات السنين تشكو «المسلة المكسورة» غربتها على ضفاف البحيرة المقدسة فى معبد الكرنك، وهى ترقد على حجرين على بعد أمتار من قاعدتها الأساسية بالقرب من توأمتها المسلة الأولي، التى أمرت بنحتها الملكة حتشبسوت فى عهد الأسرة الثامنة عشره على مسافة قصيرة من مسلة والدها تحتمس الأول. ويمكن بالعين المجردة وبأقل مجهود، رؤية أجزاء أخرى من المسلة المكسورة، متناثرة حول قاعدتها ما بين الصرحين الرابع والخامس فى معبد الكرنك. خلال جولة فى المعبد صادفنا عددا من العمال وأبدى أحدهم تعجبه الذى يمكن وصفه بالاستنكار من عدم التفكير فى ترميم المسلة. غير أن المسلة «شأن كثير من القطع الأثرية الفريدة» انزوت فى مجاهل النسيان بالرغم من وجود الجزء الأكبر منها فى مكان يحرص على ارتياده كل من يزور معبد الكرنك من سائحين أو مسئولين من الداخل والخارج. وخلال حوار قصير مع الدكتور مصطفى وزيرى مدير عام آثار الأقصر فى أثناء قيامه بالمرور بالمعبد، قال إن ترميم المسلة قد يبدو صعبا.. غير أنه ليس بالمستحيل. والجزء الراقد من المسلة يبلغ طوله 9 أمتار و40 سنتيمترا ، والجزء المتبقى من القاعدة الأصلية فى موضعها الأصلى حوالى 260 سنتيمترا. كما أكد الخبير الأثرى فتحى ياسين مدير طريق الكباش، أن إمكانية جمع أجزاء المسلة المحطمة متيسرة، لأن كثيرا منها ما زال يقبع بالقرب من مكانها ومن خلال عملية بحث قد لا تستغرق طويلا، يمكن تجميعها وإعادة تركيبها. والصعوبة التى يمكن أن تواجه عملية الترميم هى أن جسم المسلة الأصلى شأن كل المسلات، منحوت من كتلة واحدة من حجر الجرانيت، وإعادة المسلة على الهيئة الأصلية «صبة واحدة» يحتاج لمجهود كبير مع دقة فى التنفيذ، فإذا ما نجح المرممون فى ذلك، فسوف يكون ذلك فى حد ذاته حدثا تاريخيا يمهد للحدث التاريخى الكبير بإعادة نصب المسلة مرة أخري، فستكون هذه المرة الأولى فى تاريخ الآثار فى مصر أن يتم ترميم ونصب مسلة بالكامل. «تكلفة قليلة» وأكد خبراء بالآثار أن ترميم المسلة لن يكلف مبالغ كبيرة ويتوقع أحدهم ألا تزيد التكاليف على مليون جنيه، بشرط أن يتم عمل الدراسة الخاصة بالترميم عن طريق مكتب فنى مصرى وأن يقوم بالترميم أيضا، خبراء مصريون، خاصة أن خبرة الترميم المصرية لا مثيل لها فى العالم. بينما قدر أحد الخبراء أنه يمكن أن تتم العملية كلها من الترميم وحتى إعادة إقامة المسلة، بمبلغ قد يصل إلى ستة ملايين جنيه وهو نسبيا ليس بالمبلغ الكبير، غير أن الأزمة المالية الطاحنة التى تمر بها وزارة الآثار يمكن أن تعيق تنفيذ الفكرة، ما لم تجد من يتولى عملية الإنفاق على ما يمكن أن يتم وصفه بالحدث التاريخى الكبير. « الحدث العظيم» يذكر صلاح الماسخ مفتش الآثار بمعبد الكرنك، أن مصر كانت هى موطن المسلات ومنبت فكرتها، كانت المسلة ذات دلالات دينية كبرى منذ فجر الحضارة المصرية القديمة، فكانت المسلات تنتشر فى معابدها فى كل مكان وهى مرتبطة أساسا بالعقيدة الشمسية التى سادت على مر العصور، وأهم جزء فى المسلة هو «البن بن» وهو الشكل الهرمى فى أعلى المسلة، ويشكل قمتها وكان يتم طلاؤه بخليط من المعادن ليظهر مصقولا يعكس النور القادم من السماء، فيبدو مضيئا من بعيد فى أعلى المسلة. وكذلك يذكر خبير أثرى أن المسلات كانت تفتن الملوك والأباطرة على مر عصور التاريخ قديما وحديثا، فنجد الإمبراطور الأشورى أشوربانيبال يقوم بنقل مسلتين بعد غزوه لمصر فى القرن السابع قبل الميلاد، إلى عاصمة ملكه فى «نينوى» شمال العراق لإقامتهما هناك، والتى دأب على أن ينقل إليها أغلى التحف والجواهر من ثروات الأمم التى يغزوها. كما تعرض العديد من المسلات للدمار على يد الإمبراطور قمبيز بن قورش فى القرن السادس قبل الميلاد وعلى مر العصور كانت المسلات لا تلقى سوى الاندثار أو الاستيلاء عليها من جانب الأباطرة الغزاة على مر العصور، فكانت تنقل من مصر إلى مدن العالم، فلم يبق فى مصر سوى خمس مسلات فقط، بينما -مثلا- فى إيطاليا وحدها يزين ميادين وساحات وحدائق مدنها ما يزيد على خمسين مسلة. فالحدث الأكبر كما يرجو خبراء وعلماء آثار، هو اقتناص الفرصة الوحيدة الباقية ليكون فى مصر مسلة سادسة ترتفع فى سمائها بعد قرون عديدة لم تعرف البلاد غير خروج المسلات من أرضها لتذهب إلى أرض وسماء غريبتين. «لا كرامة لأثر فى بلده» والمسلات المصرية الخمس منها «ثلاث فى الأقصر واثنتان فى القاهرة» لا تلقى من الحفاوة ما تستحقها، بينما نرى المسلات فى مدن العالم فى إسطنبول وروما وباريس ولندن ونيو يورك على سبيل المثال لا الحصر، فحصر المسلات التى تشكو الغربة فى مدن العالم خارج مصر، يضيق عنها المجال هنا ولكنها رغم غربتها، فإنها تلقى الحفاوة التى تليق بها على يد هؤلاء الغرباء الذين يقيمون الاحتفالات فى ساحاتها وميادينها، ولا يكفون عن رعايتها بما تستحق، مع المزيد من الدراسات عنها أو للحفاظ عليها، بينما الأمر يختلف هنا مع ما بقى من مسلات، فتراها قائمة تشكو الغربة فى وطنها، وما المسلة المكسورة والملقاة فى الكرنك إلا مثال صارخ على ذلك.