ظاهرة جديدة سادت هذه الأيام بين المعنيين في أجهزة الدولة المكلفين بإزالة المخالفات من الشوارع علي اختلافها في القاهرةوالإسكندرية والمحافظات، وهناك نشاط مكثف ملحوظ للأحياء وشرطة المرافق في إزالة المخالفات من الشوارع والميادين الرئيسية، وهو ما لا يستطيع منصف الاعتراض عليه، لكن الخطأ الجسيم – من وجهة نظرنا – يكمن في ترك أخطار داهمة مثل المقاهي التي تبتلع نهر الشارع والمباني التي تسدها - والأمثلة أكثر من أن تحصي - الي التركيز علي إزالة موزعي الصحف، أقل البائعين ضررا وربحا وأكثرهم فائدة. كل ذلك في بلد مازال يكافح للقضاء علي الأمية ونشر القراءة بين مواطنيه. غياب ترتيب الأولويات الظاهرة سببها - كما يصفها المتضررون - ضعف الرؤية، أو بالأحري عدم التفرقة بين الخطأ، والخطر، والأشد خطورة، والتعامل مع المخالفات، والاشغالات «المرخصة» جميعا علي قدم المساواة وكأنها شيء واحد فيتشتت الجهد ونفشل في تذليل المشكلات، بل ونفتح الباب للتحايل والمساومات، والي التفاصيل. في دوران شبرا بالقاهرة يوجد متعهد صحف يدعي فتحي يوسف وهو متعهد رئيسي يعمل من خلاله نحو 30 بائعا صغيرا يعول كل منهم أسرة، وهو يعرض مطبوعاته علي الرصيف بجوار «هوايات» مترو الأنفاق، كما يحدث في كل دول العالم حتي المتقدم منها، وللعلم فالكشك «مرخص» وكذا توصيل الكهرباء قانوني، ويلتزم بسداد جميع التزاماته تجاه الدولة، ومع ذلك فوجئ بحملة إزالة لكل ما يفترشه، مع عدم إغفال نقطة في غاية الاهمية هي أن البائع لابد له من مظلة تحمي تلك الصحف من الأمطار والتغيرات الجوية وأشعة الشمس وقد لاتكون هناك موافقة عليها لكنها ضرورة منطقية لا يمكن تجاهلها، كما تم التشديد عليه بعدم عرض أي شئ مطلقا، وعدم الاعتداد بما لديه من موافقات، وظن في البداية أن هناك خطأ، لكن ماحدث تكرر، وبات يشك في صحة كل ما لديه من أوراق وموافقات من جهة الإزالة ذاتها. والغريب أنه علي بعد محطة مترو واحدة وبالتحديد في منطقة منية السيرج يحتل هواية المترو مع الرصيف كبابجي شهير وحولها الي ألواح حديدية لتقطيع اللحوم ولم يقترب منه أحد. شيوع الظاهرة ونفس السيناريو مع اختلاف التفاصيل يتكرر في حلوان ومدينة نصر والجيزة يقول الحاج ياسين – أحد أقدم بائعي الصحف في منطقة نصر الدين بالهرم – أمارس نشاطي بهذه المنطقة منذ أكثر من 35 عامًا وكان الجميع، حتي في عصور الديكتاتورية يعاملونني علي أنني ناشر للثقافة والمعرفة، ولم أر ما يجري هذه الأيام من تعنت وملاحقات لمن هم مثلي، وكانت شرطة المرافق والحي يطاردان الباعة الجائلين ولا يقترب أحد مني لأنني أروج سلعة راقية وفوق الشبهات، الي وقت قريب عندما طالتني المطاردات ونتج عنها اختفاء بعض نسخ الصحف وتمزيق البعض الآخر فأدفع ثمنه من جيبي، والباقي منها أسترده في نهاية اليوم بعد دوران علي المكاتب والتوسط لهم بكل وسيلة. وكذلك أمام قاعة سيد درويش بالهرم يقول حامد محمد حامد إنه يمارس نشاطه منذ 31 عاما وتكرر ذلك أكثر من مرة في أقل من شهر ويتساءل: لمصلحة من هذا الذي يجري؟ وهل هانت الصحف وما تكتبه الي هذه الدرجة؟ وفي محافظة المنيا - علي سبيل المثال - تم التحفظ علي صحف 7 بائعين منتشرين في 7 مواقع متباعدة لكنها «حيوية» في صباح أحد أيام الجمعة، وهو كما يعلم الجميع ترتفع فيه مبيعات الصحف، وبعد مساع وشفاعات عديدة أعيدت المطبوعات لكن بعد عصر ذلك اليوم ليفقد البائع قوت يومه، والجرائد تفقد توزيعها، والقارئ حقه في المعرفة. وفي أسيوط تم نقل بعض أكشاك بيع الصحف الموجودة بتلك الأماكن الي مواقع جانبية لايمكن رؤيتها، وتحتاج الي خريطة للوصول اليها من «القلة المصرة علي القراءة»، أما الكثرة الغالبة فلن ترهق نفسها في البحث وينتهي الموقف عند اختفاء بائع الصحف ليتضرر طابور المعتمدين عليه باختلاف مستوياتهم وصولا الي المؤسسات الصحفية، إضافة الي قارئ فقد وسيلة خبرية ومعرفية لا غني عنها. وفي الإسكندرية بمحطة الرمل وهي مركز المدينة مقصد المثقفين ومشتري الصحف العربية والأجنبية زعمت هيئة النقل العام تطوير الميدان فتم نقل الباعة الي أماكن بديلة حتي الانتهاء من أعمال التطوير وذلك منذ 6 أشهر، وتعالت أصوات المثقفين معترضة حتي وصلت الأصوات الي مسامع المهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء أثناء زيارته للإسكندرية وأنكر جميع المسئولين إصدار تعليمات بإزالة هؤلاء ووعدوا بعودتهم وهو ما لم يحدث للآن وكذا الحال في محطة مصر بالإسكندرية وميدان المنشية ولوران وغيرها، والمنهج ذاته يتم في الغربيةوأسيوط وسوهاج وقنا. ذرائع واهية المتضررون قالوا إن الغريب والمستفز في الوقت ذاته هو أن هذه الأماكن لم تحافظ تلك الجهات عليها خالية من الباعة بل احتلها آخرون بسلع ذات ضرر حقيقي بمخلفاتها مثل الخضر والفاكهة أو مخلفات الدواب، وصار الأمر أشبه بالمؤامرة علي باعة الصحف بلا أدني اهتمام للبعد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، فالدولة أجلت تفعيل كارت الوقود حتي تضمن توفيره للكل حرصا علي ألا يضار أحد، لكنها هنا تضر بكل هؤلاء ومتي لا نكون أعداء أنفسنا ونطبق روح القانون قبل نصوصه ولنبدأ بالأولويات كما سبق وذكرنا. وفي ختام التحقيق نلفت النظر الي خطر آخر هو أن هذه المهنة علي وشك الانقراض لأن المطاردات التي عانوها دفعت بعضهم الي هجر مهنته الي عمل آخر أكثر ربحًا وأقل خطرًا، فمن ينقذهم من الانقراض قبل الوصول لنقطة اللاعودة؟ والي متي نظل هكذا نحارب أنفسنا دون النظر للعواقب؟