في عصرنا المظلم يشق لنا صوتها ممر الضوء ويعيدنا أنقياء. يجعلنا نسترد النقاء لنكتشف, بقوة النقاء وحدها, كل ما يجمعنا بالينابيع الأصلية, كل ما يربطنا بالخير, كل ما يشدنا بعضا إلي بعض.. هكذا جاءت كلمات الشاعر أنسي الحاج وهي تصف الفنانة فيروز وصوتها وصداها في دنيانا. نعم فيروز التي نلجأ من جديد الي عالمها المدهش هذه الأيام بمناسبة عيد ميلادها ال.80 فيروز التي قال عنها الحاج أيضا: تغني لنا الأسرار التي جهلناها, والأحلام التي نسيناها, تغني وصوتها مكشوف كاليد المفتوحة, وتغني وصوتها محجب كوجه خفضه العذاب والخفر إلي رجاء الأرض. .................. ومهما تباينت الآراء في وصف ما يحدث في عالمنا اليوم وأيضا مهما قيل وكتب في تبرير أو تفسير غضبنا أو حزننا العام تجاه الزمان والمكان وتجاه الانسان أيضا فإن الخروج من هذه الحالة( النفسية/ العقلية) أو التخلص من تبعاتها يمكن أن يحدث بأن نلتفت وأن نهتم بما لا نراه ما بين التفاصيل الصغيرة لدنيانا وبما لا نقرؤه أو لا نسمعه وسط الضجيج والصخب المثار اعلاميا وعالميا.. لأن غالبا هذا هو ممر الضوء والسر الذي نجهله أو نتجاهله وأيضا هو الحلم الذي نسيناه. فيروز جارة القمر مثلها مثل فنانات أخريات عظيمات تذكرنا بما هو جميل في حياتنا جميل.. مع انسان ما في لحظة ما وفي مكان ما... كما أن الشاعر اللبناني العظيم أنسي الحاج بكلماته وحديثه الي فيروز وعنها وبها.. يأخذ بيدنا وبخيالنا إلي آفاق أبعد وأعمق في دنيانا وفي فهمنا لها وفهمنا لأنفسنا:عندما أسمعها أصبح إنسانا ناقصا صوته, أصبح بصوتها, إنها الجمال الذي ضاع منذ الخليقة, وعندما تسكت فبوحشية يصير المسرح تحت سكوتها مقاطعة تتنفس الحنين إليها, ثم تصرخ عطشي إلي كلام فيروز, كم سكوتها مؤلم!! إنه يأخذ الأسرار التي إن لم تقلها لنا تختنق, هل هي تفرح بعذابنا أمام سكوتها ؟ وها هي تقطع الصمت, ها هو وجودها يغضب كالضوء, يموج كالبجع الأبيض, يرق كنداء العينين, وتبكي و تضحك بلا بكاء ولا ضحك, وتملأ الدنيا بقليل منها, لأن القليل منها أكثر من السعادة. وسواء اتفقنا أو اختلفنا في تفسير كلمات الشاعر فان صدقه مع نفسه قد يضيء طريقنا بألا نخاف الصدق أبدا وألا نهرب من جهرنا بالحب ولا من تصدينا لتبعاته. انه عالم مدهش.. عالم فيروز وعالم أنسي الحاج. كل عالم علي حده والعالمان معا أيضا. الشاعر أنسي الحاج(1937 2014) في احدي لفتاته أو اعترافاته يقر:..غالبا ما قيل عن كتاباتي عن فيروز أن فيها مبالغات, وأقسم بالله أن ما يراه البعض مبالغات ليست في الواقع, غير شحنات لفظية صادقة ولكنها شحنات لفظية لا غير لتغطية فشلي ككاتب في أن أعكس ما يحمله لي, كإنسان, وما يعنيه لي وما يفجره في, صوت يلهم ويفجر ثلاثة أشياء يحتاج عالمنا إليها: الحنان والإيمان والحماسة. وكلما تقدم صوتها كلمة, مقطعا, نغما, إنفتح أمامنا أفق جديد... وكل غناء لها هو سيطرة علي الزمن, وغلبة علي الوحشية, وفعل حب ولا شك أن استحضار الماضي ومعه الحبايب ومن هم دايما في البال, وهو سبيل لا غني عنه في اللجوء إلي ما هو جميل في حياتنا. منذ أيام حضرت نقاشا حول ما يمكن تسميته التجربة المشتركة.. وتحديدا في مجال قراءة الكتب معا. ولم يكن بالأمر الغريب أن يذكر كل مشارك في هذا النقاش.. وكل مشاركة في هذا الحوار وغالبا الدموع في العيون كيف أن كتابا ما قد تم قراءته معا مثلا مع ابنتها الصغيرة منذ سنوات. أو مع والدها ووالدتها داخل جدران البيت الدافئ مع اقتراب نهاية العام. وكيف أن هذه الفقرة تحديدا أو تلك بالذات قد تم قراءتها أكثر من مرة.. والاستماع إلي كلماتها من جديد من أجل استمتاع أكثر بما قيل وما حرك في النفوس وما نقش من لحظة جميلة في ذاكرتنا. لحظة يمكن أن نرجع اليها وإلي جمالها وحلاوتها إذا وجدنا أنفسنا في حاجة اليها. ونعم القراءة معا.. كاللعب معا والحكي معا والسير معا والجلوس معا والطبخ معا والأكل معا والطرب معا والضحك معا والبكاء معا لحظات نعيشها.. ونعيشها معا ولذلك هي عظيمة ومدهشة.. وبالطبع هي أعظم إذا عرفنا كيف نستعيدها ونتمسك بها ونتحلي بها ونخرج من خلالها ولو لفترة قصيرة من كآبة الحالي وقبح المحيط بنا.. في كتابها المميز والممتع سيرة الحبايب نلتقي بالكاتبة الكبيرة سناء البيسي وهي تحلق مع باقة من ثمار شجرة الانسانية كما تقول لأتذوقها علي مهل, وأحلق في أجوائها بالخشوع والمعايشة والصداقة والحب والتأمل والتأثر.. وأنصت لها وأستزيد. وهذا الكتاب وصفات ووصلات من الاستماع الي الحياة والحبايب والاستمتاع بها وبهم.. وبأيامنا نحن أيضا. البيسي وهي تكتب عن فاطمة رشدي(1908 1996).. شلال الأنوثة تبدأ بالقول:عمرك شفت عينة بينة علي الأنوثة الطاغية عندما تتفجر طوفانا من كيان امراة, مثلما رأيناها في ذلك المشهد التاريخي الذي قامت بأدائه امبراطورة الأنوثة علي درجات سلم بيتها الشعبي في الفيلم المصري الخالد العزيمة. عندما ارتقت فاطمة رشدي درجة واتنين وتلاتة بسرعة تهربا من مطاردة الحبيب مندفعة بالتفاف جسد اعتاد تثني الالتفاف في لفات الملاءة اللف, بعقصة المنديل أبو أوية فوق جبين مرمر تلهو به تصرفات الحواجب الرعناء, فوق عيون تجذب رجلها مسيرا لا مخيرا أمام نظرات تقبل وتدبر وتضم وتلفظ وتجذب وتبعد وتؤانس وتسامر وتجرجر وتنحر وتجرح وتهدهد وتهدد وتشرق وتغرب وتخاصم وتصالح.. وخلخال خطر في القدم كل المفاتن فيه وطرقعة كعب عال تذيب دقاته فوق الحجر صخر القلوب. هكذا تعيش البيسي بكلماتها ونحن معها اللقطة الخالدة من فيلم العزيمة( عام1939) من اخراج كمال سليم. ومعها أيضا نزور من جديد اللقطات التالية في عالم فاطمة رشدي سارة برنارد الشرق المثير. إنه عالم مبهر ومدهش ومليء بالطبع بمفاجآت الزمن والقدر.. عالم لا نعرف منه إلا القليل.. .................. إنها حقا عوالم مدهشة إذا سعينا اليها وأقبلنا عليها ونهلنا منها. وبالطبع اذا لم نفقد أبدا الرغبة والارادة في أن نندهش.. وأن تأخذنا الدهشة إلي عوالم لم نزرها من قبل..