تلطف الدكتور أسامة الغزالى حرب فأشار فى عموده اليومى أو كلماته الحرة المنشورة يوم الخميس الماضى فى «الأهرام» لما جاء فى مقالتى الأخيرة عما ندين به للفرنسيين فى نهضتنا الحديثة، وعما يجمع بيننا وبينهم من قيم مشتركة، وما نتعرض له نحن وهم فى هذه الأيام على أيدى الإرهابيين الذين فقدوا عقولهم وفقدوا انسانيتهم وتحولوا إلى وحوش ضارية تقض أمن العالم وتعيث فيه فسادا، وتنتمى للإسلام زورا وبهتانا، وتجد فى بلادنا من تجار الدين، وأصحاب الوجوه الشيطانية من يصفق لها، لأنها تقاوم التغريب، وتحارب العلمانية، وتقتل «الصليبيين» فى عقر دارهم! وتجد فى فرنسا، وفى غير فرنسا من الجهلاء والعنصريين من لا يعرف الإسلام، ويكره المسلمين، رغم أن ستة ملايين من مواطنيهم يدينون بهذا الدين، ويأخذ أكثرهم الذين لا يختلفون فى شىء عن أكثر الناس بالشذاذ المتبربرين الذين لا يختلفون فى شىء عن أمثالهم فى شتى البقاع، فمن واجب العقلاء الأسوياء أن يدافعوا عن حضارتهم، وعن مستقبلهم الجامع الذى سيعلو فيه الانتماء للإنسانية على أى انتماء آخر أقول إن الدكتور أسامة تلطف فأشار إلى هذا الذى قلته، واقترح علىَّ وعلى غيرى من المثقفين المصريين الذين يعرفون فرنسا أن نشكل وفدا شعبيا يسافر إلى باريس، ويلتقى بالمثقفين الفرنسيين ورجال الصحافة وأساتذة الجامعات لتذكير العالم بأن المعركة ضد الإرهاب كانت، وستظل واحدة ومشتركة. وأنا أثنى على هذا الاقتراح وأطرحه من جديد على من يهمهم الأمر من المثقفين والمسئولين، وأجدها فرصة لتذكير المصريين والفرنسيين بماض قريب وبعيد حافل بالتبادل نقل فيه الأوروبيون عن العرب والمسلمين، ونقل فيه المصريون والعرب عن الفرنسيين والأوروبيين، ثم جاءت خمسينيات القرن الماضى لتتوالى فيها أحداث وتطورات، وافعال وردود افعال أفسدت العلاقة، وباعدت بين الشاطئين وجعلت هذا الماضى الحافل نسيا منسيا. فى الخمسينيات خسرنا الديمقراطية، وتحول نضالنا ضد الاستعمار الغربى إلى قطيعة مع الغرب، ومع الثقافة الغربية، والذى حدث عندنا حدث ما يشبهه فى فرنسا التى ناصبت حركات التحرر الآسيوية والإفريقية العداء. وقد أدت هذه الأحداث، وهذه التطورات إلى محاصرة القوى والأوساط المصرية وثيقة الصلة بالثقافة الأوروبية، وإلى التنكيل بالمثقفين المصريين الذين وقفوا إلى جانب الديمقراطية ضد الحكم العسكرى الذى نمت فى ظله جماعات الإسلام السياسى وانفردت بالساحة، خاصة بعد فشل المشروع الناصرى، وأعلنت على النهضة المصرية الحديثة حرب إبادة جعلت فيها النهضة مشروطة بالكفر، والإيمان مشروطا بالتخلف، ومن قلب هذا الخيار الجهنمى خرج الارهابيون الذين حولوا حياتنا وحياة البشر جميعا إلى جحيم مقيم، فعلى البشر جميعا أن يتصدوا لهذا الخطر الداهم، وعلينا نحن بالذات أن نقتلعه من جذوره. غير المسلمين لا يملكون إلا أجهزة أمنهم وبنادقهم وقنابلهم وطائراتهم وبوارجهم يواجهون بها داعش، والقاعدة، وبوكو حرام، وسواها من المنظمات التى خرجت من أفكار ابن تيمية، وابن عبد الوهاب، وحسن البنا، والمودودى، وسيد قطب، لكن علينا نحن أن نهزم هذه الأفكار التى خرج منها هؤلاء، علينا أن نتصدى للخطر فى منبعه، ونقضى على هذا الفكر المظلم المتخلف، ونميز بينه وبين الإسلام كما يجب أن نفهمه فى هذا العصر، وفى ضوء ما تأسست عليه الحضارة الحديثة من حقائق علمية وقيم أخلاقية، ومبادئ وخبرات وحقوق. ونحن إذن نحتاج لثقافة العصر لنعيد فهمنا للإسلام، ونكشف عن جوهره الذى يصلح به لكل زمان ومكان. الإسلام لا يكون صالحا لكل زمان إلا إذا تطور مع كل زمان وفهم مطالبه ولبى حاجاته، من هنا يكون تجديد الفكر الإسلامى والاجتهاد فيه مطلبا دينيا ودنيويا فى الوقت ذاته، والتجديد لا يتحقق إلا بالكشف عما هو مشترك بين أصول الدين وثقافة العصر التى يجب أن نعرفها، كما نعرف أصول ديننا، وأول ما يجب أن نعرفه من ثقافة العصر أنها لا تدين لمصدر واحد، وأنها ثمرة التواصل والتبادل والتفاعل بين كل الثقافات. نحن ننسب ثقافة هذا العصر للغرب، لأن هذه الثقافة تبلورت خلال القرون الستة الأخيرة فى الغرب الأوروبى الذى تلقاها من مصادر أخرى سبقت فى كل شىء. شعوب الشرق سبقت اليونان والرومان الذين اتصلوا بالمصريين والبابليين وتعلموا منهم. والعرب المسلمون الذين ازدهرت حضارتهم فى العصور الوسطى نقلوا عن اليونان والسوريان والفرس والهنود كثيرا من الافكار والمعارف والفنون والنظم التى دخلت الاسلام وتفاعلت معه، ومن هذا التفاعل ظهرت ثقافة عربية إسلامية ناضجة تأثر بها وبغيرها الايطاليون والفرنسيون والانجليز والألمان الذين أضافوا الكثير لما نقلوه عن غيرهم، ووصلوا به إلى المستوى الذى وصلت إليه الحضارة الإنسانية فى هذا العصر الحديث. من هنا نرى أن الشعارات التى يرفعها المتخلفون الانعزاليون ويتحدثون فيها عن التغريب، وعن الغزو الثقافى لا تعبر إلا عن جهل من يرفعونها وخوفهم البدائى الحيوانى من الانفتاح على الغير والاتصال بالآخرين. ونحن المصريين نعرف، ولو بصورة غامضة ما نقلناه عن الأوروبيين عامة، وعن الفرنسيين خاصة فى القرنين الأخيرين. نعرف ما قدمه لنا شامبوليون، وديلسبس، وماسبيرو، ونعرف ما أخذناه عن ديكارت، وجان جاك روسو، وميرابو وسواهم ممن فتحوا لنا ولغيرنا الطريق إلى العقلانية، والديمقراطية، والدستور، والبرلمان... لكننا لا نعرف شيئا عما نقله الأوروبيون عن العرب المسلمين، لا نعرف مثلا أو لا يعرف أكثرنا أن مؤلفات ابن رشد ترجمت إلى اللاتينية فى القرن الثالث عشر، وكانت لها السيادة فى الفكر الأوروبى طوال ثلاثة قرون، وابن رشد العربى الاندلسى هو الذى عرف الأوروبيين على أرسطو، كما فهمه العرب بالطبع، وهو الذى هداهم للتوفيق بين العقل والنقل، أو بين الفلسفة والدين إذا تعارضا، فالنصوص الدينية لها ظاهر وباطن، وهى لا تخالف العقل إلا بمعناها الظاهر الذى نستطيع أن نتجاوزه عن طريق التأويل إلى المعنى الباطن لنجد عندئذ أن النص الدينى يوافق العقل، ولا يتعارض معه، وأن العقل بالتالى هو الحكم العدل الذى نرجع إليه فى كل شىء حتى فى فهمنا للنصوص الدينية، هكذااحتل المفكر مكانه المتميز فى هذا العصر، وانفتح الطريق للنهضة الأوروبية. ونحن لا نعرف أن أعظم عمل أدبى ظهر فى أوروبا فى نهايات العصور الوسطى، وهو ملحمة دانتى «الكوميديا الإلهية» يدين بالكثير للتراث العربى الدينى والدنيوى، وهذا ما أعلنه المستشرق الإسبانى آسين بلاثيوس الذى لاحظ أن أوروبا المسيحية لم تكن تعرف العالم الآخر إلا رموزا مجردة لم تتجسد إلا فى ملحمة دانتى التى تتضمن كثيرا من الصور والمشاهد التى نجد لها أصولا فى نصوص عربية تتحدث عن الاسراء والمعراج، وعن الجنة والنار، وقد شرح الناقد المصرى الدكتور صلاح فضل هذا الموضوع شرحا وافيا فى دراسة له عن تأثير الثقافة الإسلامية فى الملحمة الإيطالية. ونحن لا نعرف أخيرا أن قصة «حى بن يقظان» التى كتبها ابن طفيل فى القرن الثانى عشر ربما كانت الأصل الذى حاكاه الروائى الإنجليزى دانيل ديفو فى روايته المشهورة «روبنسون كروزو» بعد خمسة قرون. نعم نحن أخذنا الكثير عن الآخرين. وهم أخذوا عنا الكثير. فحضارتنا هى حضارتهم. والخطر الذى يهدد البعض يهدد الكل. فلابد أن يتصدى له الجميع. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي