مثلت التفجيرات التى شهدتها العاصمة الفرنسية باريس فى الثالث عشر من نوفمبر الحالي تطورا نوعيا جديدا فى نهج التنظيمات الدينية المتشددة التى صُنفت على أنها تنظيمات تمارس الإرهاب تجاه الدول والأفراد وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش»، الذى أصبح من أكثر التنظيمات استقطابا للمقاتلين من جميع أنحاء العالم، ما يفرض تساؤلات متعددة بشأن المقاتلين الأجانب ومستقبل الاستقرار فى دولهم حال عودتهم إليها. فعلى مدى السنوات الماضية تدفق الآلاف من المقاتلين الأجانب لاسيما من الدول الأوروبية إلى مناطق الصراع المحتدمة فى منطقة الشرق الأوسط وبالتحديد فى العراقوسوريا، للقتال فى صفوف عدد من التنظيمات الدينية المتطرفة، الأمر الذى يحمل العديد من التهديدات والمخاطر الأمنية حال عودة هؤلاء المقاتلين إلى بلدانهم، نظرا لما اكتسبوه من مهارات قتالية متنوعة وغير تقليدية؛ خاصة إذا ارتبطت تلك المخاطر بصعوبة تحديد الأعداد الحقيقية لهؤلاء المقاتلين فى ظل غياب وجود احصاءات رسمية دقيقة فى هذا الشأن، ما يطرح تساؤلات عدة بشأن تداعيات عودة المقاتلين الأجانب إلى موطنهم الأصلى. وتتمثل تلك التساؤلات فى كيفية مواجهة الحكومات للتهديدات الأمنية التى تفرضها تلك العودة؟ وهل ستجنى الحكومات الأوروبية نتائج سياستها - القائمة على مساندة ودعم سياسات غزو وتقسيم عدد من الدول - فى صورة إرهاب منظم تسعى لتطويقه ومحاربته حاليا؟ وهل سيؤدى ذلك إلى تبنى تلك الحكومات لسياسات تتعارض ومبادئها فى الحريات واحترام حقوق الإنسان بما يدفع إلى تجريم شامل لشريحة مجتمعية ما، أم ستنتهج فى الوقت نفسه سياسات من شأنها إعادة تأهيل المقاتلين ودمجهم فى مجتماعاتهم الأصلية؟ ومدى تأثير ذلك على سياستها بشأن انخراطها فى الحرب الدولية على الإرهاب؟ أصبحت قضية المقاتلين الأجانب موضع اهتمام العديد من الدول والمؤسسات الأمنية والاستخباراتية خلال العامين الماضيين، وموضع اهتمام الدول المصدرة لهؤلاء المقاتلين، وبالتحديد المنضمين لتنظيم «داعش»، وعلى الرغم من تبنى مجلس الأمن فى 24 سبتمبر 2014 للقرار رقم 2178 الذى يقضى بقيام الحكومات «بملاحقة مواطنيها الذين ينضمون أو يحاولون الانضمام للتنظيمات المتطرفة»، إلا أن هذا لم يمنع عددا كبيرا من المقاتلين الأجانب من الالتحاق بتلك التنظيمات. فقد أشارت دراسة أعدها ريتشارد باريت منسق لجنة الأممالمتحدة لمراقبة نشاطات تنظيم القاعدة وحركة طالبان خلال الفترة من 2004- 2013، إلى أنه بحلول منتصف عام 2015 بلغ عدد المنضمين إلى صفوف داعش فى كل من العراقوسوريا أكثر من 25 ألف مقاتل ينتمون إلى مائة دولة، وقد بلغ عدد المقاتلين الأجانب غير العرب فى سوريا وحدها نحو 12 ألف مقاتل، كما قدر عدد المقاتلين المنتمين لدول أوروبية بحوالى 4000 مقاتل موزعين بين روسياوفرنسا وتركيا وبريطانياوألمانيا وبلجيكا والسويد - وهى الدول التى تعتبر من أكبر عشرين دولة مصدرة للمقاتلين إلى سورياوالعراق- هذا إلى جانب عدة دول أوروبية أخرى. ارتفاع مطرد كما أشار تقرير الإرهاب لعام 2014 الصادر عن وكالة تطبيق القانون الأوروبية «اليوروبول» المنوطة بحفظ الأمن فى أوروبا عن طريق تقديم الدعم للدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى فى مجالات مكافحة الجرائم الدولية والإرهاب، إلى ارتفاع مطرد فى عدد مواطنى دول الاتحاد الأوروبى المنضمين لجبهات الصراع فى سوريا الذى يعد الأكثر جذبا لتلك العناصر وفقا لأسباب لا يتسع المجال هنا لحصرها، الأمر الذى يثير المخاوف من قيام تلك العناصر بعد عودتها بتشكيل جماعات دينية متطرفة داخل النطاق الأوروبى، لاسيما بعد رصد عودة فعلية لعدد من المنتمين لداعش وغيره من التنظيمات المتشابهة من داخل بؤر الصراع السورية، ما يدعو إلى التساؤل حول أسباب العودة. يرجع بعضها إلى التضييق على مصادر تمويل تلك التنظيمات لاسيما عمليات بيع النفط غير الشرعية، وبالتالى تأثر الرواتب التى يتم دفعها لعدد من المقاتلين الذين قد يكون انتمائهم لتلك الجماعات قائم على أسباب مادية لاسيما المقاتلين المنتمين لدول الاتحاد السوفيتى سابقا. والبعض الآخر يرجع إلى نمط الحياة اليومية الذى يفرضه تنظيم داعش وجبهة النصرة على المنتمين لهما، والذى يصعب تقبله من قبل المقاتلين الوافدين من دول غرب أوروبا تحديدا، هذا بالإضافة إلى نشوب القتال بين الفصائل المسلحة ذات المرجعية الدينية الواحدة كداعش وجبهة النصرة فى سوريا حول فكرة الخلافة الإسلامية من ناحية، ومناطق النفوذ فى المناطق المستولى عليها من النظام السورى من ناحية ثانية، مما أدى إلى عودة العديد ممن أنضموا إليهما إلى بلدانهم الأصلية. والبعض الثالث، يرجع إلى بروز ساحات استهداف جديدة أمام تنظيم الدولة الإسلامية لاسيما فى ظل تركز ضربات التحالف الدولى على دولتى العراقوسوريا فقط، فهناك ما يشير إلى وضع اليمن وسيناء على قائمة اهتمامات داعش؛ ما يعنى احتمالية جذب تلك الساحات لعناصر جديدة من المقاتلين الأجانب. أضف إلى جميع ما سبق احتمالية ازدياد أعداد المقاتلين الأوروبيين العائدين نتيجة للتوسع فى الضربات الجوية التى يشنها التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية فى العراقوسوريا، لاسيما بعد توجيه فرنسا لضربات على معاقل التنظيم فى محافظة الرقة بسوريا كرد فعل على تفجيرات باريس الأخيرة. دلالات متشابكة فى هذا السياق يمكن تحليل دلالات الاحصاءات السابقة وتداعياتها فى النقاط التالية: الأولى، ازدياد مخاطر انتشار العنف فى الدول الأوروبية مستقبلا؛ نتيجة لما ستحمله العناصر المقاتلة العائدة من أفكار توصف فى المجتمعات الأوروبية بالتطرف، كما يشير العديد من الدراسات إلى مخاطر عودة المقاتلين البوسنيين تحديدا على الأمن الأوروبى فى منطقة البلقان؛ واحتمالات تشكيلهم لشبكات تطرف إقليمية تمتد لتشمل صربيا والجبل الأسود وألبانيا وكوسوفو وما قد يفرضه ذلك من تداعيات على الاستقرار فى هذه المنطقة. الثانية، تشير إلى أن خبرة القتال وإعداد المتفجرات واستخدام السلاح وما سيوفره ذلك من أدوات التعبير عن الغضب أو الثأر؛ لاسيما المقاتلين الأوروبيين من أصول عربية والذين «قد» يعانون من مظلومية نتيجة للعنصرية فى التعامل، كالمضايقات التى يتعرضون لها فى المدارس بسبب الأصل والعرق، أو نتيجة لمشكلات اجتماعية أخرى تعزلهم عن المجتمع، أو الذين يرون فى دعم دولهم لضربات عسكرية ضد تنظيم داعش المتطرف سببا كافيا لتوجيه ضربات إرهابية «ثأرية» تهدد أمنها واستقرارها. أما الثالثة، فتشير إلى أن عمليات العنف التى تقوم بها العناصر العائدة إلى دولها فى أوروبا ستعزز مستقبلا من صعود حكومات اليمين المتطرف، وما سيفرضه ذلك من تبنى تلك الحكومات اليمينية لإجراءات أكثر تشددا وصرامة تجاه الوجود غير الأوروبى فى دولها خاصة الرعايا من دول منطقة الشرق الأوسط والمسلمين منهم تحديدا. إجراءات متشددة وفى سياق مواجهة التداعيات السابق ذكرها اتجهت الدول الأوروبية إلى وضع استراتيجية تتضمن مجموعة من الإجراءات التى جمعت فيها بين الإجراءات المتشددة التى تقوم على تجريم الانضمام للتنظيمات المتطرفة دينيا، وبين إجراءات إعادة التأهيل أى إعادة إدماج العناصر المقاتلة فى المجتمع مرة أخرى؛ ففيما يتعلق بإجراءات التجريم لمنع تدفق المقاتلين تجاه بؤر الصراع فى الشرق الأوسط أقر العديد من الدول سياسات من شأنها ملاحقة المقاتلين العائدين ممن تثبت إدانتهم فى قضايا الانتماء إلى تنظيم الدولة الإسلامية، أو ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أو استخدام أسلحة دمار شامل وذلك عبر اتباع تلك الدول عدة سياسات. يعد من أبرز تلك السياسات إقرار فرنسا - التى تعتبر من أكثر الدول الأوروبية المصدرة للمقاتلين الأجانب - قوانين تحظر على الأشخاص المشتبه فى سعيهم للسفر إلى مناطق الصراع فى سورياوالعراق مغادرة منطقة «الشنجن»، مع اتخاذ إجراءات من شأنها تشديد الرقابة على مواقع الاتصال عبر الانترنت لمحاصرة الجماعات المتطرفة، بالإضافة إلى دراسة مجموعة من الإجراءات الجديدة الأكثر تشددا وتقييدا للحريات على إثر التفجيرات التى شهدتها مؤخرا، مما أثار قضية الحريات فى مقابل الأمن. كذلك قيام ألمانياوبريطانيا وبلجيكا بحظر نشاط المنظمات الإسلامية التى يحتمل أنها تقدم تسهيلات للسفر إلى بؤر الصراع المسلح فى سورياوالعراق. أضف إلى ذلك اتجاه بريطانيا لإعطاء الجهاز الأمنى بها سلطة سحب جوازات السفر من الأفراد الذين يثبت بحقهم الانضمام لداعش أو غيره من التنظيمات المتطرفة. كما تحتفظ السلطات الهولندية بالحق القانونى فى سحب جنسية المدانين فى أعمال إرهاب وعنف من مزدوجى الجنسية. وتحتفظ كذلك الحكومة الألمانية بحقها فى سحب وثائق سفر أى شخص إذا ما ثبت الاشتباه فى كونه يشكل تهديدا محتملا لأمنها القومى. هذا إلى جانب موافقة حكومة النمسا على قرار يقضى بسحب الجنسية ممن يثبت تورطه فى القتال بسوريا. وجدير بالذكر هنا أن تشديد المعاملة فى السجون من قبل الأجهزة الأمنية تجاه العائدين تزيد بنسبة كبيرة من احتمالات التطرف لديهم، كما أن السياسات العقابية السابق ذكرها والتى أقرتها الدول الأوروبية كسحب الجنسية ومصادرة جوازت السفر والمراقبة الأمنية المكثفة لكل ما هو إسلامى قد تؤدى إلى ترسيخ فكرة «الضحية» لدى هؤلاء المقاتلين، وهى أمور تشكل عثرات فعلية أمام إعادة دمجهم فى مجتماعاتهم؛ لأنها تزيد من شعورهم بالاضطهاد والإقصاء والمظلومية وهى مشاعر كفيلة بتحويلهم لمتطرفين حقيقيين. تقييم حالة العائدين أما فيما يتعلق بإجراءات إعادة التأهيل والدمج المجتمعى؛ فقد اتجهت بعض الحكومات الأوروبية وبالتحديد النرويج والدنمارك إلى اتباع سياسات «تقييم حالة العائدين» من سورياوالعراق لتحديد الدور الذى قاموا به؛ هل هو انضمام فعلى لتنظيم داعش أو النصرة، أم أتجاه للدفاع عن المدنيين الذين يتعرضون لوحشية النظام السورى وتقديم مساعدات إنسانية، أم أن الانضمام لداعش كان بدافع المغامرة، على اعتبار أن تلك الخطوات تمثل مدخلا رئيسيا لمعرفة كيفية استيعابهم عند العودة إلى بلادهم من منطلق ادراك أنه ليس كل عائد من ساحة القتال فى سوريا أو العراق يمثل «تهديدا محتملا» لمجتمعه، أو أنه أصبح شخصا متطرفا إلى الأبد تجاوز فرصة الإصلاح والتأهيل. وتعتبر هذه الرؤية أن إعادة تأهيل المتطرفين العائدين ودمجهم فى المجتمع اجتماعيا وثقافيا فضلا عن معالجة مخاوفهم بشأن توفير حياة كريمة هى وحدها الآلية الكفيلة بتطهير الأفراد من التشدد والتطرف والتورط فى أعمال عنف متعددة. نتائج محدودة يمكن القول إذن أن جميع الإجراءات الأمنية الأوروبية السابق ذكرها لم تمنع من تدفق المقاتلين الأجانب إلى مناطق الصراع المسلح سواء فى العراق أو سوريا، بصورة تدفع إلى القول أن استراتيجيات أوروبا فى الرصد والمراقبة والوقاية لاحتواء مشكلة (تدفق/ عودة) المقاتلين الأوروبيين إلى ومن مناطق الصراع المسلح فى الشرق الأوسط تبدو محدودة النتائج والتأثيرات، الأمر الذى يحتاج إلى فهم أوسع وأشمل لأسباب استمرار نجاح التنظيمات المتطرفة فى تجنيد العديد من المقاتلين الأجانب، كما تظل الهجمات الإرهابية التى تضرب الداخل الأوروبى من حين لآخر معبرة عن وجود إشكاليات متعددة أمنية وثقافية وإنسانية ساهمت فى تحويل عدد من المواطنين الأوروبيين إلى متطرفين، بإمكانهم زرع الخوف والرعب فى مجتماعاتهم عبر هجمات متطرفة لا يمكن التنبؤ بحدوثها أو منع تكرارها.