على مدار ما يقارب 300 عام، لم تستطع التحديات والمعوقات على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أن تكتب نهاية الصحافة المطبوعة فى العالم، بل استمرت الصحافة المطبوعة تتدفق، ويشهد العالم افتتاح صحف وإغلاق أخرى، وامبراطوريات إعلامية قائمة على هذه الصحف. وعلى الرغم من حالة الجدل التى سادت العالم منذ نهاية القرن الماضي، مع التطور التكنولوجى وظهور الإنترنت والثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، حول احتضار كل ما هو مطبوع سواء كتب أو صحف أو كلمة ونهايته وموته وأفول عصره، فإن جميع المعطيات تؤكد أن هذا الكلام، وهذه الاستنتاجات والتوقعات لا صحة ولا أساس لها. الصحافة المطبوعة عاشت منذ صدور ما يعتبر أول صحيفة تسمى "نيو إنجلاند كورانت" عام 1721، والتى أصدرها جيمس، شقيق الرئيس الأمريكى بنيامين فرانكلين أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وما زالت تواصل انتصاراتها على العصر الرقمى بكل معطياته وأدواته وثوراته. ومنذ أيام قليلة، أعلنت "ذا صن"، الصحيفة الأكثر شعبية ومبيعا فى بريطانيا، والمملوكة لقطب الإعلام روبرت ميردوخ، عن تقديم خدماتها الإليكترونية مجانا، وهو ما يصب فى صالح تطوير أدائها وتحسين خدماتها فى الصحيفة المطبوعة. وبعد أن مرت الصحيفة بتجربة "إخفاق رقمية"، حيث فشلت فى تحقيق أرباح من جعل خدماتها الصحفية "باى وول"، أى متاحة فقط للاشتراكات المدفوعة، قررت السير فى الاتجاه المعاكس، وتخلت عن استراتيجية "الاشتراك المادي" بسبب صعوبة ومشاكل عالم الإعلان الرقمي. "الكعكة الإلكترونية" من الإعلانات، لم تمنح "ذا صن" ما كانت تأمل فيه عندما أعلنت عن نيتها حجب محتواها الصحفى المجانى فى 2013 من أجل الاشتراكات، وكان المستفيد الأكبر منافستها "ديلى ميل" التى أصبح موقعها أحد أكثر المواقع شعبية فى العالم الآن. الأمر ليس مجرد فشل فى الواقع الافتراضي، كما يبدو من عنوانه، وإنما جزء من استراتيجية قررت ريبيكا بروكس الرئيس التنفيذى للشركة المالكة للصحيفة اتباعها، بسبب إيمانها بأن "هذا التطوير سيضمن الحفاظ على المكانة المتفردة التى تحتلها الصن فى الثقافة البريطانية". تجربة "ذا صن" ليست متفردة، بل هى تجربة مر بها الكثير من الصحف سواء فى الولاياتالمتحدة أو بريطانيا، واكتشفت هذه الصحف بعدها أنه لا بديل عن تقديم خدمة ومحتوى يضمنان استمرارها. وبلغة الأرقام، وعلى المستوى العالمي، فإن 93% من دخل الصحف ما زال يأتى من الطباعة الورقية، وما زال حوالى 2,7 مليار شخص يقرأون الصحف المطبوعة مقابل 770 مليون على الإنترنت. وهكذا فشل نظام "باى وول"، بطريقتيه الصعبة والسهلة، والذى يمنع مستخدمى الإنترنت من الوصول إلى محتوى الصحف إلا بشرط دفع اشتراكات، فى قتل الصحافة المطبوعة إلى الأبد، وأثبت هذا النظام إخفاقه فى الكثير من الصحف العالمية، ومن بينها "نيويورك تايمز" الأمريكية، و"التايمز" و"الجارديان" البريطانيتان. لكن تزايد استخدام الصحف لهذا النظام الرقمى ضاعف من صعوبة "معركة الإعلانات"، وجعل نصيب الجميع من "الكعكة الإعلانية" يتضاءل يوما بعد يوم خصوصا فى ظل الأزمات الاقتصادية التى يعانى منها العالم منذ 2008، حيث يشكل دخل الإعلانات الإليكترونية نسبة تتراوح بين 10 إلى 20% من دخل الصحف. كما أن نسب نجاح التجربة تفاوتت تفاوتا ضخما من صحيفة لأخرى، ومن دولة لأخرى. وعلى سبيل المثال، كانت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية أول من طبق هذا النظام عام 1997، حيث حصلت على 200 ألف مشترك فى أقل من عام، وطبقت نظام "الدفع الصعب"، وظلت صحيفة ذات جماهيرية حيث اكتسبت مليون مستخدم فى 2007، و15 مليون زائر فى مارس 2008. وفى 2010، طبقت صحيفة "التايمز" البريطانية نظام الدفع الصعب، وهو القرار الذى أثار حالة من الجدل الشديد، لأنها على العكس من "وول ستريت جورنال" كانت موقعا إخباريا عاما، وبالتالى لجأ قراؤها إلى قراءة الأخبار من مصادر أخرى مجانية. وبعد تطبيقها هذا النظام، فأنه لم يحقق نجاحا ولا فشلا، فقد جلب 105 آلاف زائر فقط، وعلى النقيض، فإن "الجارديان" البريطانية أصرت على نظام الدفع بحجة "الإيمان بالإنترنت المفتوح" و"اهتمام المجتمع"، وأثبت هذا النظام فشله فى عدد من الحالات وتم إلغاؤه. وأعلن الخبراء، ومن بينهم آريانا هافينجتون مؤسسة موقع "هافينجتون بوست" نهاية عصر الاشتراك المدفوع فى 2009، واعتبرت هذه "تجارب حمقاء" لعدة أسباب أولها أن المحتوى الذى تم حجبه متاح على مواقع أخرى، وبشكل واسع، وأن المشتركين المحتملين سوف يتجهون إلى مصادر مجانية من أجل الحصول على الأخبار. نتائج عكسية حملها دفع الاشتراكات الإليكترونية، منها قلة عدد الزوار، والبحث عن بدائل مجانية، والجدل حول أخلاقيات حجب الأخبار من أجل الأموال وتأثير ذلك على حرية تدفق وتداول المعلومات. وفى محاولة للتغلب على جدل لا أخلاقية "باى وول"، اتجهت بعض الصحف إلى وضع "مبادرة دخل بديلة"، وذلك لتنويع مصادرها المالية، وبالتالى ضمان بقائها، ولتسمح بجعل مادتها الإخبارية مجانية، وكانت صحيفة "الجارديان" البريطانية سباقة فى هذا المضمار، حيث أسست منصة مفتوحة من ثلاث مراحل تتدرج بين مواد إخبارية مجانية، ومواد إعلانية، وأخرى خدمية أو تطبيقات. كما تخلت العديد من الصحف عن هذه الخاصية مثل نيويورك تايمز، ولكنها استفادت منها فقط فى تصفح أرشيفها قبل عام 1980. وذكر مركز "بيو" الأمريكى للأبحاث أن توزيع الصحف الأمريكية المطبوعة حقق انتعاشة فى 2013، كما ارتفعت أرباح توزيعها فى 2014 على الرغم من استمرار انخفاض الدخل من الإعلانات، وأنه على الرغم من تحول العديد من الصحف إلى رقمية إلا أن قراءة الصحف المطبوعة مازالت مستمرة. وما زال 56% من الأمريكيين يفضلون قراءة الصحف مطبوعة مقابل 11% يقرأونها على أجهزة الكمبيوتر المكتبية أو المحمولة و5% من خلال هواتفهم المحمولة. وهكذا تبحث الصحافة المطبوعة عن بدائل البقاء بدلا من انتظار الموت الذى لا يأتي.