منذ نحو العامين كان لى اجتماع فى مقر برنامج الغذاء العالمى فى مصر وتحدثوا معى على تعاقدهم مع القطاع الخاص لتوريد أرز من الدرجة الثالثة بنسبة كسر 12% للتوزيع على الفقراء والمعدمين فى الأماكن النائية من مصر، وكانت المشكلة عدم صدق التجار معهم فى التوريد حيث تسلموا أرزاً لا تقل نسبة الكسر فيه عن 50% ولم يجدوا من ينصفهم ضد تجاوزات التجار. تطرق الحديث إلى لماذا وأنتم منظمة دولية ولديكم اعتمادات مالية سخية ومع ذلك توزعون أرزا من الدرجة الثالثة على الفقراء وليس أرز الدرجة الأولى بنسبة كسر 3%، فكان ردهم أن فكر دعم الغذاء هو سد رمق الجائعين والمحتاجين وليس إشعارهم بالرفاهية، لأن الرفاهية ينبغى أن تكون من صنع يد البشر وكده، أما المساعدات والدعم الغذائى فهو لمجابهة الفقر والجوع فقط، بالإضافة إلى أنهم وبشرائهم الأرز من الدرجة الثالثة بدلا من الأولى يضاعفون من عدد الأسر المستفيدة نتيجة لفارق الأسعار وبالتالى تغطية أكبر عدد من الأسر الفقيرة والمعدمة كما وأن نسبة الكسر 12% تعنى أن نسبة الأرز الصحيح 88% وهذا جيد جدا ويفى بالغرض ولنترك أرز الدرجة الأولى للتصدير وللأثرياء. نفس الأمر وجدته أيضا فى التعاقدات على زيوت الطعام حيث التعاقدات فقط على زيوت الخليط وليس على الزيوت الراقية كزيت الذرة أو العباد وغيره. الفلسفة الثانية فى دعم االغذاء لمحاربة الفقر والجوع أن الدعم ليس دعما مطلقا ولكنه يغطى الحد الأدنى للاحتياجات البشرية من الغذاء بما يسمح للفقير بأن يعيش صحيحا غير معتل قادراً على العمل والكسب ورعاية أسرته، كما وأن للدعم حداً أقصى دوما لمحاولة تغيير سياسات الإنجاب غير المنضبط للقفراء ولحثهم على تنظيم الإنجاب بما لا يرهقه ولا يرهق ميزانيات الدول الفقيرة المحدودة القدرة. تحديد هذا الحد الأقصى للدعم يترك للحكومات طبقا لقدراتها المالية، فتحدده الصين ذات أقوى اقتصاد منطلق بطفل واحد فقط لكل أبوين وتحدده دول أخرى بطفلين بحد أقصى ولا يوجد دعم مطلق فى أى مكان فى العالم لجميع الأبناء وأقصى درجات الدعم فى العالم تكون لخمسة أفراد فقط للأسرة أى لأبوين ولثلاثة أبناء فقط وعلى من يزيد فى إنجابه عن ذلك أن يتحمل مسئوليته فى رعاية ما أنجبه. فإذا ما طبقنا القاعدتين السابقتين فى مصر نجد أن فلسفة دعم الغذاء غائبة وبلا علم ولا معايير، كما لا تحكمها أى قواعد مالية أو محددات من الدولة. هذا الأمر تابعناه فى تصريح لوزير المالية قدرى دميان هذا الأسبوع بأنه صرف لوزارة التموين مبلغ 8.3 مليار جنيه كدعم للغذاء (خبز وسلع بطاقات) فى شهرين فقط، وهذا الأمر يعنى أن الدعم سيصل هذا العام إلى 50 مليار جنيه مصري، ارتفاعا من 31.5 مليار فقط فى العام الماضى وطلب وزير التموين زيادتها فى موازنة هذا العام إلى 40 مليارا ولكن تصريحات وزير المالية تشير إلى وصولها إلى 50 مليارا وهذا يصنف على كونه دعما منفلتا وغير منضبط وينبغى مراجعته، لأن وزير التموين قام بخفض وزن الرغيف المدعم من 130 جراما إلى 90 جراما ومع ذلك زاد استهلاكنا من القمح الحكومى المخصص للرغيف المدعم إلى 12 مليون طن قفزا من 9 ملايين طن فقط قبل تطبيق منظومة الخبز، كما قام بتخفيض مخصصات الفرد من سلع البطاقات التموينية إلى 15 جنيها للفرد نزولا من 24 جنيها فى السابق، وبالتالى فلا معنى لزيادة مخصصات الدعم رغم هذه الإجراءات وتمثل علامة استفهام غير مفهومة. ومن القاعدتين السابقتين لفلسفة دعم الغذاء لسد الرمق وليس الرفاهية وقاعدة الحد الأقصى فليس من المفهوم أن يقول رجل من صعيد مصر فى مداخلة تليفزيونية بأنه يصرف حاليا زقفةس خبز يوميا فالأعداد مفتوحة والأهالى يصرفون خبزا لعشرة أفراد وبعضهم يصرف لأكثر من ذلك وبالتالى تكون فلسفة صرف الدعم بحد أقصى خمسة أفراد غائبة وتجعل من الحكومة كبش فداء وهذا مخالف لكل قواعد دعم الغذاء فى العالم. وفى ظل هذا الانفلات الواضح لا تكتفى وزارة التموين بهذا الأمر لتراجع قدراتها على تقنين ومراجعة هذا الانفلات وترشيد الأعباء بل تفتح باب التسجيل لقيد 6 ملايين مولود جديد إلى بطاقات التموين!! لمزيد من الأعباء على الحكومة ولمزيد من الأرباح للأفران والبقالين التموينيين وكأن ثمن إختفاء طوابير الخبز هو أن يذهب الدعم كاملا للتجار وبلا ضوابط. أمر آخر وهو توفير السلع الراقية على بطاقات التموين من الدرجة الأولى وهو مالايتماشى مع قواعد برنامج الغذاء العالمى بأن دعم الغذاء لمحاربة الفقر والجوع وليس للرفاهية، وبالتالى فالأمر يجذب مطالبين جدداً بهذا الدعم طالما أنهم سيصرفون أغلى أنواع الزيوت للعباد والذرة مع أرز الدرجة الأولى رغم أنهم يعملون فى وظائف مرموقة ويتقاضون عشرات الآلاف كرواتب وبما سيزيد من أعداد المسجلين على دعم الغذاء دوريا بمن فيهم اساتذة جامعة ودبلوماسيون وقضاة ونيابة وشرطة وجيش وإعلاميون ورجال أعمال، والأمر الواضح هنا أن يكون صرف المقننات الغذائية بما يتناسب فقط مع سياسات محاربة الفقر والجوع وبعيدا عن الرفاهية من أرز الدرجة الثالثة (دون غش التجار) والزيوت الخليطة، وأن يقتصر الأمر على الغذاء فقط فليس من أساليب دعم الغذاء صرف الوزارة لمسحوق الغسالات الفول أوتوماتيك فلا هى سلعة غذائية ولا هى سلعة فقراء ومعدمين. وأخيرا وعلى الرغم من زيادة دعم الغذاء وزيادة استهلاك الرغيف البلدى المدعم كما ورد فى تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات وأيضا التعبئة والإحصاء إلا أن الدولة الطيبة تصرف فارق نقاط لتوفير الخبز الذى زاد استهلاكه وبمبلغ 6 مليارات جنيه سنويا وهذه علامة استفهام جديدة لأن من لا يريد خبزا بلديا ولا يستهلكه فليصرف مسحوق غسيل ومربى وبقالة حتى إن الوزارة تسمح لمن لا يصرف خبزا إلا لثلاثة أيام فقط كل شهر بأن يصرف باقى الشهر منتجات رفاهية وسلعا هامشية مع أن صرفه للخبز لثلاثة أيام فقط شهريا هو إقرار صريح بأنه لا يستحق دعم الخبز ولا يلزمه هذه النوعية من الخبز، ولكن الأمر يبدو وكأن مصر واحدة من أغنى دول العالم. فلسفة دعم الغذاء تحتاج مراجعة شاملة بعيدا عن سياسات انتفاع التجار ورفاهية غير مقبولة فى استهلاك الغذاء المدعم. لمزيد من مقالات د.نادر نور الدين محمد