تبرز ضرورات المشاركة الشعبية فى الانتخابات البرلمانية باعتبارها مؤشرا دالا على درجة الوعى والثقافة السياسية السائدة فى المجتمع، كما أنها تمثل أحد محركات القدرة على صوغ السياسات العامة عبر المساهمة بفاعلية فى الانتخابات التى من شأنها تحديد ممثلى الأمة المنوط بهم ممارسة عمليتى التشريع والرقابة على أداء السلطة التنفيذية، بما يعنى تجسيد مجموع الإرادات الشعبية للمواطنين والتعبير عن هويتهم الثقافية، وتمثيل اتجاهاتهم السياسية ومصالحهم الاجتماعية على اختلافها، وهو ما تشير إليه أوضاع الدول المتقدمة. وبينما تتعدد أسباب التراجع النسبى فى معدلات المشاركة فى الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية فى مصر، فإنها على تبايناتها قد تعكس الرغبة فى إلقاء مسئولية الاختيار إلى الغير، وتعكس لدى البعض الافتقاد الطوعى للقدرة على التأثير وتصويب السياسات، فالمعرفة السياسية ينتج عنها إدراك وتشكيل آراء مستقلة تدفع بالمشاركة لا بعكسها، بما ينتج عنه ما يطلق عليه فى الأدبيات السياسية «المواطنة المسئولة»، كما أن المجتمعات الناضجة سياسيا تذهب للانتخابات لدعم تيارات أو تأييدا لسياسات أو لإسقاط حكومات أو لمعارضة برامج سياسية، فيما المقاطعة أو الشعور بعدم جدوى المشاركة قد يمثل تعبيرا عن ضعف الوعى السياسي، وفق ما يمكن أن يطلق عليه «الكسل الانتخابي» أو «الاعتزال السياسي». وعلى الرغم من أن ضعف الإقبال على الانتخابات قد يشكل أحد أدوات الضغط السياسي، فإن ضمان نزاهة هذه الانتخابات قد يجعل من خيارات المشاركة أكثر تأثيرا وفاعلية، فعلى سبيل المثال، ثمة أنماط متنوعة للتصويت، فهناك «التصويت المستعار» و«التصويت الإستراتيجي» أو حتى «إبطال الأصوات» والتى تعد وسائل أبلغ لتأكيد الثقافة السياسية وتؤشر إلى درجة تسييس المجتمع وبقاء السياسة فى المجال العام، لتحقيق الأهداف وفق ما يمكن أن يطلق عليه «المشاركة الذكية» أو ممارسة «السياسة الانعكاسية»، من خلال العمل على تشكيل مجلس النواب يعبر عن تفضيلات شعبية تأخذ فى اعتبارها انتقاء البدائل المطروحة، لترجيح وتفعيل قوة بعض التيارات السياسية بناء على انحيازات سياسية أو برامج اقتصادية أو توجهات اجتماعية. ترشيد السياسات يرتبط ذلك بضرورة إدراك أن المشاركة السياسية فى الحالة المصرية الراهنة تتصاعد أهميتها بالنظر إلى ضرورة إكمال بناء مؤسسات الدولة، وإثبات أن تعزيز شرعية مجلس النواب الجديد، لا تعنى بالضرورة العمل على خلق «مجلس مولاة» دون تبصر بنمط السياسات وجدواها وحقيقة أهدافها، وإنما إيجاد كتل سياسية بداخله قادرة على المعارضة فى القضايا والمواقف التى تستحق ذلك وفق أحكام برجماتية يسودها الانحياز للوطن لا للسلطة، استهدافا لترشيد السياسات العامة وامتلاك القدرة على توجيه الانتقادات وممارسة الرقابة. ومن شأن ذلك أن يضمن من ناحية التوازن بين السلطات ومن ناحية أخرى توازن القوى والآراء داخل المجلس ذاته، بما يعنيه ذلك من إعادة هندسة أدواره ليكون معبرا عن اتجاهات الشعب لا مواقف السلطة، بما يشمله ذلك من تحقيق انسجام بين تطلعات المواطنين ومحركات الحكم، وعلى نحو يضمن «الفصل المرن» بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لا هيمنة إحداهما على الآخر. وهنا تبرز المشاركة السياسية ليس باعتبارها غاية فى ذاتها ولكن كوسيلة للتعبير عن حرية الرأي، الذى لا يجوز تحت أى ظرف احتجازه، باعتباره أحد دعامات المواطنة، ويمثل تجسيدا لديمقراطية المشاركة لدى المجتمعات المتقدمة، التى تحدد مساراتها وتصوغ توجهاتها عبر اختيار ممثليها ونوابها، وذلك من خلال الإصرار على ممارسة الحقوق السياسية سواء بالترشح أو الانتخاب، وفق قاعدة أن الصندوق الانتخابى بالنهاية يمتلك القدرة على تمثيل إرادة المصوتين. إن انتخابات دورية نزيهة برقابة محلية ودولية، مثلت أحد أعظم منجزات ثورتى 25 يناير و30 يونيو، وتكلفة مصادرة هذا المنجز من تكلفة بقاء أى نظام سياسي، وهى رسالة أكدتها السلطة السياسية ذاتها من خلال الدعوة للمشاركة الشعبية فى الانتخابات، ومن ثم فالمشاركة تبرز أهميتها بحسبان قدرتها على التأثير والتغير، التى تستدعى المشاركة لا المقاطعة. قانون الانتخابات على الرغم من أن قانون الانتخابات شكل أحد أهم مسببات انخفاض نسبة التصويت بالجولة الأولى للانتخابات، بسبب طبيعة القوائم المغلقة وتقسيمات المقاعد بين القائمة والفردي، ومع ذلك، فإن النظرة العكسية تشير إلى أن مهمة البرلمان القادم الرئيسية ستتعلق بتحديد آليات عمل ضامنة لعمل مفوضية مستقلة للانتخابات وفق قانون انتخابى جديد، بما يستدعى مشاركة أكبر لاختيار كوادر سياسية وحزبية وأكاديمية وشبابية قادرة على إنجاز ذلك بنزاهة، انطلاقا من قاعدة إعلاء الوطنى على الشخصي، على نحو يكفل تحقق الصالح العام ونيل رضا المواطنين بتلبية تطلعاتهم، ولن يتحقق ذلك طالما استمر توظيف قضية المشاركة كأداة لمساومات فى مواجهة السلطة، دون الأخذ فى الاعتبار أن تشكيل مجلس النواب فى ذاته من المفترض أن ينتقص من صلاحيات هذه السلطة، بما يستدعى المشاركة لا المقاطعة. يتداخل مع ذلك أن هذه المرحلة التأسيسية قد تبدو أكثر المراحل خطورة وأهمية كونها تتعلق بمراجعة قوانين تم إصدارها خلال الفترة الماضية فى غيبة البرلمان، فضلا عن ضرورات سن العديد من التشريعات وإجراء تعديلات على القوانين، وتوجيه الأسئلة والاستجوابات للوزراء وتقييم السياسات وتصويبها، واقتراح الحلول للمشكلات، ومواجهة العديد من الأزمات والتركيز على القضايا المحورية التى تتعلق بالسياسات التعليمية والصحية وقضايا التصنيع والتصدير.. وكلها قضايا تحتاج إلى قوى سياسية لا تعيد إنتاج سياسات الماضى التى أولت الأهمية القصوى للمصالح الشخصية، على نحو كان قد أفرز ما أطلق عليهم نواب «القروض» و«تسقيع الأراضى» و«التجنيد» و«النقوط».. إنها ظواهر لا يمكن التغاضى عنها أو السماح بتكرارها، دون شن فى مواجهتها «حرب سياسية» عبر دعم القوى السياسية التى تستحق الدعم فى مواجهة «القوى الانتهازية» التى تنظر للبرلمان باعتباره «فرصة اقتصادية» لا «منصة سياسية» لإنجاز البرامج ودعم أو تقويم السياسيات العامة. توازن السلطات وبصرف النظر عن الموقف من الأداء السياسى للحكومة المصرية الحالية، فإن إيجاد توازن بين السلطات وضمان الفصل بينها يمثل غاية فى حد ذاته، الأمر الذى لن يتحقق إلا من خلال تعزيز شرعية مجلس النواب، وهو ما قد يشكل أحد محركاته التصويت المكثف فى هذه الانتخابات ليس وحسب باعتبار ذلك ضروريا للتأسيس لنظام ديمقراطى حقيقي، حتى لا تستبد سلطة بأخرى، وإنما يرتبط ذلك أيضا بكون مجلس النواب الجديد ووفق الدستور المصرى يحظى بصلاحيات واسعة لا يمكن تفعيلها وتوجيهها إلا بحسن اختيار أعضائه وتعزيز شرعيته. وبينما يشير البعض إلى أن الكتلة الرئيسية فى البرلمان ستتماهى مع السياسات الحكومية، بيد أن ذلك فى واقع الأمر يغفل العديد من التجارب التاريخية ومنها تجربة حزب الوفد وقدرته على مواجهة سلطة الملك قبل ثورة 1952، والتى ارتبطت بما تمتع به من شرعية انتخابية وحظى به من مساندة شعبية، لذلك فإن تعزيز شرعية البرلمان تمثل أحد أهم محركات ضمان استقلاله. تعزيز أدوار الأحزاب وعلى الرغم من أن ثمة اتجاهات تعتبر أن الأحزاب المصرية الموجودة على المسرح السياسى المصرى إما «قديمة» استنفدت فرصها أو جديدة «ورقية» تشكل كيانات افتراضية مستأنسة، غير أنه من الواضح أن ذلك يمثل حكما متسرعا يصادر أدوار هذه الأحزاب فى مرحلة جديدة تشهد استقرارا نسبيا مقارنة بما واجهته هذه الأحزاب فى السنوات السابقة، التى وسمها الاضطراب وسيادة القضايا الاستقطابية، كما تظهر مثل هذه الأحكام نوعا من التعميم ودرجة من الاتكالية السياسية. ذلك أن التجربة الحزبية المصرية تعانى مما يمكن تسميته ب «الشيخوخة الجنينية»، فرغم قدم التجربة الحزبية فى مصر إلا أنها لم تُحَصل إلى الآن الدعم السياسى والشعبى الكفيل بتطورها، فقبل ثورة 25 يناير ساهم تزييف إرادة الناخبين عبر عمليات التزوير الممنهجة فى إيجاد طقوس انتخابية إجرائية لا تحمل أى معنى يدل على جوهرها، وقد ترتب على ذلك وساهم فيه أن أيا من هذه الأحزاب افتقدت إلى الديمقراطية الداخلية وغاب عنها أيضا الظهير الشعبي، بما جعلها بدلا من أن تسعى إلى حيازة السلطة تكتفى فى غالب الأحيان بنفاق السلطة.. إن مواجهة هذا الواقع وتبديله جذريا يستدعى المشاركة فى الانتخابات ودعم هذه الأحزاب ذات البرامج الانتخابية الحقيقية للمساهمة فى خلق حياة حزبية صحية. وثمة حاجة فى هذا الإطار للأخذ بعين الاعتبار أنه لا توجد ديمقراطية عريقة لا تعانى من مشكلات هيكلية وأن الديمقراطية المصرية لن تقوم على استنساخ التجارب الأخرى، فالنظم السياسية لا تستنسخ فكل نظام سياسى وليد سياقه وبيئته وظروفه المحلية، وتغير هذا السياق مهمة الناخبين من خلال المشاركة السياسية التى تعبر عن نضج مجتمعي، يوجهه الرغبة فى مواجهة «القوى السياسية القديمة» التى تحاول إعادة إنتاج الماضى عبر الدعوة لتشكيل حزب مهيمن على الساحة السياسية، توكل إليه عمليات التعبئة وحشد المواطنين للمشاركة فى الانتخابات، وذلك على غرار الأنظمة الفاشية المستبدة. المال السياسي يتداخل مع ذلك أيضا، إن عودة بعض مظاهر تحكم رأس المال فى العملية الانتخابية من الواضح أنه ارتبط بضعف المشاركة الشعبية فى الجولة الأولى من الانتخابات، بما قد يجعل القاعدة السائدة لنتائج هذه الانتخابات تتمثل فى أن البقاء ليس للأكفأ وإنما للأغنى أو الأكثر قدرة على الإنفاق المالي، بما من شأنه أن يغير خارطة المنافسة ويخلق مجلسا لا يعبر عن إرادة الشعب وإنما يجسد حاجات البعض منهم للمال ومعاناتهم من الفقر وفى أحيان استغلالا لحالات «الأمية السياسية». التحديات الخارجية ومن الضرورى ألا يغيب عن كل ما سبق طبيعة المعطيات الخارجية فى ظل ما تعج البيئة الأمنية الإقليمية به من تحديات متصاعدة تواجه الدولة المصرية بسبب حالات الانهيار الأمنى الذى تعانى منه العديد من دول الإقليم، بما يخلق تهديدات مركبة فى مرحلة تسعى فيها الدولة المصرية إلى تنويع نمط تحالفاتها الخارجية، وهو ما يستدعى ضرورة العمل على تعزيز شرعية البرلمان وتفعيل أدواره للتوجيه والتقويم والدعم والمساندة، خصوصا أن ثمة نجاحات خارجية نسبية ساهمت فى استعادة دور مصر إقليميا ودوليا، على النحو الذى تجسد مؤخرا فى الفوز بمقعد غير دائم فى مجلس الأمن. مرت مرحلة واحدة من أربع مراحل انتخابية (جولتى انتخاب وإعادة) واليوم وغدا تجرى مرحلة الإعادة من الجولة الأولى، وثمة فرص متاحة للمشاركة للتعبير عن الرأى واختيار المرشح الأنسب والأكفأ استعدادا للجولة التالية ومن بعدها انتخابات المجالس المحلية. هناك طريقان أحدهما للمشاركة، والآخر للمقاطعة، وتشير المعطيات السابقة إلى أن طريق التفاعل الايجابى عبر المشاركة الانتخابية مضمون العواقب لاختيار الأنسب خصوصا أن المقاعد التى احتجزت لفوز أصحابها حتى الآن لا تتجاوز أربعة مقاعد من أصل 568 مقعدا.. فهل تصل الرسالة قبل فوات الأوان؟