انحاز الناخب المصري في انتخابات المرحلة الأولي بوضوح إلي «الاختيار الرشيد» ، فقد أظهرت نتائج الجولة الأولي أن الناخب المصري أصبح أكثر رشدا وعقلانية ويقوم باختياراته علي قاعدة الفائدة والمنفعة بشكل أساسي فكان تفضيل قسم كبير من الناخبين عدم الذهاب إلي صناديق الاقتراع تعبيراً عن إدراك مسبق أن دوائرهم ستذهب أصواتها لاختيار الأفضل، بالتوازي سعي الناخب إلي ترجيح كفة القائمة التي يمكنها التفاعل بشكل أكثر ايجابية مع النظام السياسي الحالي كما أفصح عن تحول مزاجه التصويتي برفض التيارات الدينية وكذلك المساهمة في صعود المرأة والأقباط وشباب العائلات إلي مسرح الإعادة. فنظرية الاختيار الرشيد التي طورها الباحث الأمريكي انتوني داونز قامت علي أن الناخب شخص رشيد وعقلاني يقوم بالاختيار بين بدائل علي أساس الفائدة والمنفعة، فقد اعتبر داونز أن الناخب يشبه المستهلك الذي يختار السلعة (التصويت) في السوق (الانتخابات) بافتراض أنها تحقق له فائدة في المستقبل وتعظم من مكاسبه. وفي الجولة الأولي، قرر الناخب المصري عدم شراء سلعة «الشعارات الدينية»، وهو ما ظهر جلياً في فشل عدد كبير من قيادات حزب «النور» السلفي في خوض جولة الإعادة بدوائرهم ولعل أبرزهم القيادي السلفي شعبان عبد العليم في دائرة بني سويف ، كما كان التصويت العقابي للتحالف السلفي الإخواني السابق واضحاً في صناديق البحيرة التي كشفت عن تراجع واضح لنفوذ «النور» في مناطق نفوذ تاريخية في الدلنجات وأبو المطامير ، بالتوازي كانت المفاجآة في فشل مرشح السلفيين الأشهر في مطروح سالم السمالوسي وهي المفاجآة التي حملت معها دلالات علي استمرار فشل الدعوة السلفية علي لملمة الانقسامات داخلها. لقد رأي الناخب المصري بعد تجربة مريرة مع التيارات الدينية إن «الاختيار الرشيد» هو استبعاد السلفيين من المشهد السياسي، بالتوازي اعتبر أن التصويت للمرأة هو الوجه الآخر للعملة فاحالت هذه الانتخابات نحو 20 سيدة إلي مرحلة الإعادة في رقم غير مسبوق في المنافسة علي المقاعد الفردية في تاريخ الانتخابات المصرية. هذا التصويت لصالح المرشحات عكس ليس فقط تغيرات في الثقافة التصويتية للناخبين بل أيضاً يرسم صورة لحجم التحولات الاجتماعية التي يشهدها الصعيد ضد السيطرة التقليدية للعائلات و»الكبار» بحيث يمنح فرصة لسيدة في كوم أمبو بأسوان لخوض معركة الإعادة في لقطة انتخابية لا تتكرر في صعيد مصر. بالتوازي دفع الناخبون في دائرة شهيرة بنفوذ المتطرفين «سابقاً» وهي إمبابة بسيدتين إلي مرحلة الإعادة في مشهد تاريخي أخر، بينما منح الثقة لسيدة في البحيرة لخوض المعركة علي حساب منافسها الرجل من نفس العائلة. أما في المنيا، فكان الاختيار الرشيد بمنح الفرصة للأقباط بالتعبير عن ثقلهم في هذه المحافظة بوصول 10 مرشحين أقباط إلي جولة الإعادة وبعيداً عن الحديث المتكرر عن مشاركة الشباب والحشد للتصويت الذي يعود في جزء منه لعقليات «الاتحاد الاشتراكي» التي تعتبر الجمهور مجرد قطع دومينو يمكن تحريها بالخطابات والأوامر والصراخ أحياناً، فإن الدوائر الهادئة التي لا تشهد صراعاً بين متنافرات انخفضت بها نسب المشاركة، بينما علي غير العادة والمتوقع احتلت البحيرة قائمة المشاركة في الانتخابات وخاصة في دمنهور ورشيد حيث سعي ناخبو مدن البحيرة لمواجهة الحشد السلفي في المناطق الريفية والحيلولة دون خوض قائمة «النور» الإعادة وهي النتيجة التي تحققت حيث ساهمت نسب تصويت هذه المناطق إلي جانب حضر الاسكندرية في سيدي جابر والرمل والمنتزة ومحرم بك في منع سيناريو الإعادة علي قوائم «غرب الدلتا». في النهاية، قد يري البعض أن المصريين لم يميلوا إلي فكرة التصويت كواجب وطني ، وهي الفكرة التي طرحتها مدرسة متشجن الأمريكية في دراسة العوامل السيكولوجية للتصويت والخاصة بشعور الناخب بأن التصويت واجب يمثل أحد الأسباب وراء المشاركة. ولكن الإجابة هي أن الناخب المصري تبني هذا التوجه بوضوح في استفتاء 2014 والانتخابات الرئاسية في نفس العام ويبدو أنه وجد ضرورة لاخذ استراحة من هذا النمط التصويتي لصالح «الاختيار الرشيد».. وبعيداً عن كافة الأحاديث فإن من يريد أن يتحدث مع الناخب المصري عليه اكتشاف الناخب مرة أخري، فهذا الناخب ذهب للصناديق 8 مرات في 4 سنوات ونصف السنة بمعدل يقارب مرتين في العام الواحد منذ ثورة 25 يناير ، وهذا الناخب اختبر كافة الأشكال التصويتية وبالتالي فإن الوعي الجمعي يحمل خبرات تصويتية كثيفة ومتعددة يجعله قادر علي تحديد نمط تصويته وفقاً للحظة السياسية ويختار بناء علي قواعد قد لا تفهمها نخبة بعضها يعيش في وهم إعادة انتاج الماضي.