من باب الصراحة المباشِرة الموجِعَة، دون لفّ أو دوران أو تجميل للكلام، فإنّ بعضَ مَن انسحبوا مِن خوض الانتخابات ومِمَن يَدْعون الناخبين إلى الامتناع عن التصويت، هم على يقين لا يفصحون عنه بأنهم أعجز من أن يفوزوا لا فى هذه الانتخابات ولا فى انتخابات جماهيرية غيرها، لسبب مهم، بل لشرط من أهم الشروط، هو أنهم فشلوا تاريخياً فى بناء الثقة مع الناخبين، لعوامل كثيرة منها عدم إدراك أهمية هذا البند، ومنها عدم تنمية المهارات المطلوبة للتواصل مع القطاعات الشعبية العريضة، بما ترتب عليه استحالة حصولهم على الأصوات المطلوبة للفوز فى انتخابات حرة نزيهة تنافسية! وكأنه غاب عنهم، وهم يدعون طوال العقود الماضية إلى تحقيق الديمقراطية، أن الحصول على أصوات الجماهير فى الوصول إلى الحكم وإلى التمثيل البرلمانى وعلى مستوى المجالس المحلية هو المعيار الذى سيُؤخَذ به فى حالة نجاح دعوتهم إلى الديمقراطية! والأغرب من هذا أنهم لا يسعون لإقناع الجماهير بكلام عاقل بأن الانفضاض عن التصويت هو أفضل للوطن وللشعب. البسطاء يعرفون الحقيقة التاريخية التى تقول إن المقاطعة تأتى بأسوأ المرشحين، ما دام أنه ليس هناك آخرون أفضل منهم ينافسونهم، كما أن الامتناع عن التصويت يجعل الأصوات الصحيحة تذهب إلى منافسين آخرين ممن هم أقل فائدة، بل وربما يكونون أكثر خطورة! لاحِظ أن بعضهم دأب على انتقاد الدولة طوال العامين الماضيين بتهمة أنها تماطل فى استكمال خارطة الطريق بإجراء الانتخابات البرلمانية، ثم جاء نقده الجديد، فى سياق مقاطعته، بمنطق أن المنافسة على الفوز باتت محصورة بين اتجاهات كلها مرفوضة، إما فلول مبارك وإما تيارات إسلامية! هل يدرك الناقدون أن كلامهم ينطوى على معنى خطير ينال منهم قبل أن يطعن فى الآخرين، وهو أن الفرق التى ينافس مرشحوها ناجحة فى التواصل مع الجماهير الناخبة إلى حد يوفر لهم إمكانية الفوز أو المنافسة الحقيقية؟ ألا يعنى هذا، أيضاً، أن الناقدين يُسلِّمون بصحة أنهم أنفسهم يفتقدون إلى هذا التواصل، وأنه ليس لديهم هذه الإمكانية؟ الحقيقة الثابتة التى سقطت عن نظر هؤلاء، والتى تعلمتها الدول الحديثة بعد تاريخ من المحن والمآسى، أن الحياة ضنينة فى أغلب الأحوال وأنها لا تتيح لنا دائماً كل ما نريد، بل إن هذا شيء شديد الندرة قد لا يكون موجوداً إلا فى بعض الأساطير، وأن الديمقراطية التى تتبدى فى صورتها الجذابة المعاصرة، لم تكن هكذا فى بدايتها، وكان على النخب السياسية فى هذه الدول أن تناضل عبر نحو قرنين لتصل إلى ما وصلت إليه، ولا يزال البعض هناك، حتى الآن، يُبدون انتقادات من أجل مزيد من تطويرها، بما يعنى أنها ما كان يمكن أن تصل إلى شكلها الراهن إلا بالدأب على الاستفادة من جوانبها الإيجابية، بروح عملية، وبديناميكية لا تعرف التلكؤ، وبترتيب الأولويات، وبعين فاحصة تميز الألوان والظلال، وتفرز ما يمكن تحقيقه وما ينبغى تفاديه، وأنه إذا لم يكن من المتاح أن تحقق كل ما تريد، وهو الأمر المعتاد، فعليك ألا تبدد فرصة اقتناص ما هو ممكن، كما أنه، وفى أدنى أداء من السياسى، لا يُقبل منه أن يتيح فوزاً سهلاً لمن يمثل خطراً على مستهدفاته التى من المفتَرَض أنها للصالح العام. أما الدعوة للمقاطعة وللامتناع عن التصويت فإنها تتعامل مع الواقع السياسى من منطلقات الأخلاق التى يتربى عليها الناشئة، والتى منها التعامل بمنطق إما كل شئ وإما لا شئ، مما جعل جماهير الشعب المصرى تتجاوز النخب السياسية فى أعقد القضايا فى السنوات القليلة الماضية. ففى عهد مبارك، قيَّد السياسيون على الساحة أنفسهم، وأصابوا الواقع السياسى بالشلل، بإعلانهم الدائم الممل عن تمسكهم بالشرعية الدستورية المباركية المفبركة التى تدعم استمراره فى الحكم ثم توريثه فى عائلته، كان مسارهم عدمياً ما كان يمكن قط أن يؤدى إلى إنقاذ البلاد، وما كان يمكن تغيير مبارك إلا بالثورة الشعبية التى تجاوزت هؤلاء السياسيين لأنها أعلنت صراحة وبجسارة أن إسقاط شرعيته وشرعية نظامه ودستوره وقوانينه التفصيل هى المطلب الأول. ولما جاء دور السياسيين لتنفيذ مطالب الثورة، كان خطؤهم التاريخى الذى لا يُغتفر، والذى حَلَّقوا فيه فى عالم الفانتازيا، باعتبارهم جماعة الإخوان فصيلاً وطنياً وأنهم »شركاؤنا« فى الثورة!! فى الوقت الذى كان الإخوان يعلنون أن الوطن حفنة من التراب العفن، وأن الحضارة الفرعونية حضارة عفنة، وكان رأيهم أنهم لن يُلبّوا الاستجابة لخروج 25 يناير لأنهم «مش هايمشوا ورا شوية عيال»! ولم ينضموا إلى الانتفاضة إلا بعد أن ضمنوا أمانهم وهم يرون انهيار أجهزة حماية مبارك، ثم سعوا، من أول وجود لهم فى الميدان، إلى التفاوض مع عمر سليمان لبيع الثورة والثوار، بهدف الحصول على مكاسب تخصّ جماعتهم وحدها! ثم كان تتويج سلسلة الأخطاء التاريخية بمساعدة مرشح الإخوان على الوصول للقصر الرئاسى! وهذه أيضاً لم ينقذ البلاد من تبعاتها الكارثية إلا خروج الشعب فى 30 يونيو! وبعد كل هذا، هناك إيحاء واضح من هذه الفئة بأنهم راضون عن أنفسهم وعن اختياراتهم! بل إنهم يتمادون إلى المطالبة بمقاطعة الانتخابات! فهل يكون الرهان مرة أخرى على الوعى الجمعى للشعب؟ المناقشات تصخب على وسائل التواصل الاجتماعى، خارج الإعلام الرسمى والخاص، هناك من يؤيد المقاطعة ويطالب بالممانعة، وهناك من ينتقد هذا التوجه ويُذكّر بالتبعات والخسائر التى نجمت عن إخلاء الساحة سابقاً. وسط الكم الهائل من التعليقات ظهر صوت ذكى ظريف يُذَكِّر بأن الثمن الباهظ الذى دفعته مصر فى سبيل التخلص من مبارك «أبو الفلول» تمثل فى الصمود 18 يوماً مع استعداد نحو ألف بطل على الاستشهاد، أما الخطر الأفدح فهو وصول الطرف الآخر إلى الحكم، مما يورط البلاد فى تيه وعذاب سيكون من المؤكد أسوأ من العام الكئيب لحكم الإخوان، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ متى ينتهى! ورفع المُعَلِّق الظريف شعار «أما الفلولُ فأنا كفيلٌ بهم»! [email protected] لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب