كنّا- فى غابتنا الغرّاء- عندما يأتى الشتاء، ويهبط علينا المساء، نخرج جميعا للعراء، فنبتهل للسماء، لاهجين بأحرّ الدعاء، بأن يديم علينا الرخاء، والماء والغذاء، وأن يرتع فى مراعينا النماء، وأن تحفظنا عناية الله، من كل وباء وداء.. وكنّا إذا غنينا نطيل الغناء، وإذا رقصنا نرقص فى اشتهاء.. آاااااااه.. كم كانت أيامنا سعيدة، وغابتنا معطاءة رغيدة؟ فلما أن استوزروا علينا القرد ميمون، صاحب المؤامرات والفتن والمجون، ذا القلب الحقود المأفون، ساءت الأحوال، فلم تعد الحال كالحال، حيث زرع بيننا الميمون، بصاصيه والعيون، تنقل له كل همسة بها نهمس، وأى نفس نسحبه فنتنفّس، وبات الأخ يتجسس على أخيه، وأبلغ كل والد عن بنيه، وشكّت كل امرأة فى بعلها، وحبست كل ذات حجال مرارتها فى عبّها، فصارت الغابة الوديعة، كئيبة شنيعة، وباتت الحياة فيها لا تطاق، فتاقت أرواح الحيوانات للانعتاق. واستخدم معنا القرد اللعين، ألاعيب الشياطين، وعاملنا كالمجانين، وأعطى لكل منا كراسة، سمّاها» الجسّاسة»، وأمرنا ابن اللئام، بأننا- عندما يخيم الظلام- نكتب فيها خواطرنا بانتظام، وأن نقول ماسمعناه من بعضنا، بالكمال والتمام، وأمر القرد الفظيع، كل أفراد القطيع، بأن على الجميع، أن يراقبوا الجميع، وأكد لنا أنه، يعرف عنا، كل شاردة وواردة، بل ويرى الدم فى الشرايين والأوردة.. وهكذا ماتت فينا البراءة، ونسينا شجاعتنا والمروءة والجراءة. وذات يوم أسود، نادى علينا القرد الأجرد، وهدد وتوعد، ثم صرخ فينا بصوت كالرعد: إن كل من نراه منكم يا كلاب، وفى يده كتاب، سوف يلقى أشد العذاب. وقال لنا ابن الكلب، إن كل الكتب، إن هى إلا عبث ولعب، ومضيعة للوقت الذى هو من ذهب. فلما أن حملقنا فيه بعجب، وخارت قوانا من التعب، ألقى إلينا ابن الجزمة، بحزمة، بها دوسيهات وأضابير، مكتوبة بالطباشير، وقام إلينا، فوزعها علينا، وهتف بصوت كله غضب: احفظوا هذا يا حمير عن ظهر قلب، فهذا من الآن وصاعدا دستور الشعب. فلما أن عدنا إلى الزرائب، وأعلم الحاضر منّا الغائب، أضأنا الشموع، وفى مآقينا الدموع، ورحنا نقرأ الكلمات كلمة كلمة، فلم نفهم منها ولا كلمة. وحينئذ توجهنا جميعا لأخينا الحمار، العارف بكلام الكبار، وطلبنا منه أن يقرأها لنا، ويشرح ما استعصى على أفهامنا. وساعتها نظر إلينا الحمار، بمنتهى الاحتقار، وهمس بصوت جبار: اعلموا يا شطار، أن هذا المنشور الطويل، صك من العيار الثقيل، بتنازلكم يا مهابيل، عن زمنكم الجميل، وبداية لزمن آخر، كله نواح وعويل. ثم تمعن فينا بتأمل، وراح يفند المكتوب فى كلام سهل.. فقال: ألا فلتعلموا يا أبناء جلدتى، ويا أهلى وقبيلتى، أن التفكير صار من الكبائر، وان من يتجرأ فيفكر هو مجرم كافر جائر، وليس مسموحا لأى منكم، بأن يبدى رأيا أو يتعلم، لأن فى كل رأى حر قنبلة موقوتة أو لغم. وأنه قد آن الأوان لإيقاف الفوضى، فالغباء منتهى الرضا لمن يرضى. واعلموا أن تضارب الآراء، عمل ضد أحكام القضاء.. وأن الرأى الأوحد هنا، هو للقرد الميمون أستاذ السهتنة. فما إن طلع علينا النهار، وانقشع الغبار، أصبحنا فإذا كل واحد منّا وجهه للأرض، لا يلتفت هنا أو هناك، ولا بالطول ولا بالعرض، وكلما التقت منا العيون، تذكرنا ظلمة السجون، فارتعدت فينا الفرائص والجفون، ولم يعد حيوان يصافح حيوانا، وصارت الحكمة السائدة بيننا:» إن أكثركم فطنة.. من جبن فاجتنب الفتنة، وعاش جبانا إمّعه، لا مع أحد هو، ولا أحد معه.. وحتى كلمات الغزل نسيناها، وأشعار الغرام دفناها، وقصائد الحب حرقناها، واندثرت عندنا أغنيات الحصاد، وجافانا النوم وساد السهاد.. وإن حدث وغنينا، فالغناء المأمون، هو فقط التغنى، بمنجزات الوزير ميمون. ومضغنا ألسنتنا فبلعناها، وخلعنا عقولنا من الرءوس، وتحت النعال دهسناها، وأرواحنا للمليك سلّمناها.. إلى أن جاءت الطامة الكبرى، وكادت جحافل العدو، أن تدخل قليوب والمؤسسة وأحمد حلمى وشبرا! .. وحينها جرى نحونا القرد المهزوم.. يبكى بدموع من دم ويزوم ، ويتوسل إلينا فى وجوم: هيا يا أبناء الغلابة، هبوا للدفاع عن الغابة .. فصرخنا فيه كلنا بانفجار: وهل تركت لنا يا مخبول أى خيار، بعد أن أحرقتنا بالنار، وسلبت منا القدرة على الابتكار، وتوليد الأفكار؟ وهنالك ضحك الحمار، ونهق بصوت كالخوار: إياكم أن تلوموا القرد يا خنازير.. فالذى يبيع روحه لأمير أو وزير.. لا يستحق سوى الرفس بالكعوب.. والضرب على أم رأسه بالمركوب!