حملت الريح «الدعوة» إلى كل سكان الغابة، فتجمد الدم فى عروق الحيوانات الغلابة، وانكمش فى أعشاشه الطير.. وذاع الخبر. لقد دعا ملك الغابة- السيد أسد- إلى اجتماع طارىء صباح غد السبت فى العاشرة.. والويل كل الويل لمن يتخلف؛ ستطير رأسه على الملأ، وتقطّع أرجله وأياديه من خلاف، وتقدم جمجمته وعاء للسيد، يشرب فيه، وندماؤه معه، عند السحر. ارتعدت الفرائص وارتعشت الركب، وصارالهمس شلالا من الصخب؛ ماذا يريد السيد؟ إنه لم يدع إلى اجتماع كهذا من قبل.. فلماذا الآن؟ هل أخطأ أحدكم فى حق الملك؟ فمن هو هذا المخطىء؟ وما حجم الخطأ؟ تسللنا كلنا- الواحد تلو الآخر- إلى الشجرة العتيقة، حيث يقيم القرد الحكيم ميمون، العارف بكل الشئون، العالم بالظاهر والمكنون، وأكثرنا اطلاعا على نزوات السيد، وشطحات الجنون. سألناه: أفى الأمر كارثة ما يا ميمون؟ أم هى لحظة من لحظات النزق والمجون؟ ابتسم الميمون، وأدار لنا فى استهتار ظهره، وأشعل الغليون.. ثم من بين شفريه دمدم الملعون: غدا ستعرفون.. انتظروا حتى ينجلى الليل.. وحينها تنبلج الظنون.. هيا هيا.. انصرفوا فرادى كى لا يراكم العسس فيحسبون.. أنكم تتآمرون.. أو لمليونية تخططون! أقبل الفجر الأحمر، ثم على استحياء أدبر، وسكت الديك عن الصياح، ولاح الصباح، وفى العاشرة كنا جميعا أمام خيمة السيد، نقرأ المعوذتين ونتشهّد، وتحلقنا فى دائرة خيم عليها الصمت، يرفرف فوق رؤسنا طائر الموت. وتوقعنا أنه طبعا لن يخرج علينا على طول، وسيتركنا نهبا للقلق والفضول. لكن- وياللغرابة- خرج إلينا فى الموعد بالضبط ملك الغابة، تحيط به حاشيته المهابة، وعلى رأسهم الذئب والنمر والضبع.. والميمون أبو الكآبة. وبعد أن عزفت الغربان، النشيد الوطنى الملآن، بالشجن والأحزان، اصطف العبيد والخصيان، وتقدم السيد وبيده الصولجان، ثم على العرش جلس، فألقينا الأعين إلى الأرض، وكلنا للأنفاس حبس. لقد علمتنا التجارب السابقة، أن الرأس الذى يرتفع، سرعان ما على الأرض يقع. ووقف الضبع فى مواجهتنا زنهار.. ثم إلى المليك أشار، وقال بصوت كالنار: مولانا جمعكم اليوم ليسمعكم بعض الكلمات، فأنصتوا دون غلبة فارغة أو تعليقات. بعد تصفيق حار، أثار الغبار، تنحنح السيد ثم همس: أهلا بكم يا أحباب، فى ضيافة ملك الغاب، فتعجبنا لتلك الرقة، وارتعدنا؛ إذ أننا اعتدنا، أن بعد كل همسة رقة، ستأتى حتما المشقة. فتح السيد فمه المهول ثم بصق، ودار بعينيه يمسح الأفق، وابتسم لأضعفنا الأرنب «هلفوت»، ودعاه أن اقترب يا مسخوط، فتهامسنا مرعوبين: آه.. لقد حانت ساعتك يا هلفوت.. البقاء لله فكلنا سوف نموت. صرخ فينا أنذل الضباع: إخرسوا يا رعاع، فمولانا الشجاع، سوف يتكلم يا أنطاع. هنالك اتكأ السيد على مرفقيه، ونفخ شدقيه، وسوى شاربيه، وأبرز نابيه.. ثم نطق فقال: يا أبناء غابتى الطيبين، لقد اتخذت قرارا يا حلوين، بعد بحث رزين، وأريدكم عليه أن تعينون، وبمنتهى الهدوء تناقشون. صمت قليلا فى ضجر، ثم نظر إلى هلفوت وابتسم فى مكر، وهمس: من الآن فصاعدا، سيكون الهلفوت نائبى عليكم، وبعد عمر طويل يصبح خليفتى عليكم. انطلقت من حلوقنا «الآهة» رغم الخوف، وتساءلنا: هل هرم سيدنا فأصابه الخرف.. أم تراه أتى بنا هنا الآن ليتهكم ويستظرف؟ صرخ فينا الغضنفر بصوت كالقدر: هيه.. ما رأيكم يا غجر؟ هيا أفتونى.. وليتكلم باسمكم جميعا القرد ميمون. خطا القرد خطوتين فى شمم، واسترق النظر إلى الهلفوت وابتسم، ثم قال: والله يا ملك البلاد، ويا سيد العباد، ما بعد قولك قول، وهذا الهلفوت الفسل، منّا وعلينا، ونعرف أصله وفصله، فامض على بركة الله، وما دمت قررت، فلا قرار إلا قرارك. فى هذه اللحظة، قفز الحمار، من بيننا كالحمار، ثم زعق كأنه فى خناقة أو شجار: ولماذا يا صاحب الجاه، اخترت الهلفوت دون سواه؟، ألم أكن أنا يا سيدنا الأجدر، بهذا المنصب الأكبر؟، قهقه الملك بجنون، ونظر إلى القرد المفتون، وقال: رد أنت عليه يا ميمون. قبض الميمون، على أذنى الحمار المأفون، وصرخ: لأنك حمار، والحمير لم تخلق للسيادة، ولا لتولى القيادة. عندئذ تقدمت العنزة العجوز، التى لها فى قلب الملك مكان محجوز، ومرّغت أنفها فى التراب، ونزعت عن وجهها الحجاب، وبقدميها الخلفيتين برطعت، وبصوتها الرفيع سرسعت: قل لنا يا مولانا المغوار.. ما السر وراء هذا القرار؟. ابتسم الملك فى جلال، ورد فى الحال: إنما أردت أن أجرب معكم تجربة جديدة، لعل الأيام تثبت أنها مفيدة. لقد قررت يا عنزتى الشقية، أن أفشى بينكم الحرية، وأعلمكم الديمقراطية. فوجىء الحاضرون، بالقرد الميمون، يضحك بغير انتباه، حتى استلقى على قفاه، وصرخ بعلو الصوت، فى وجه الأسد المبهوت: يا سيد القوم، إثنان لا يجتمعان؛ قانون الغاب وقوانين الإنسان. ألا فلتعلم يا ملك الزمان، ويا كبير بنى الحيوان، أن ما يصلح لقيادة البشر، لا يمكن تطبيقه على البقر. عندئذ اربد وجه الأسد واكفهر، وشخط فينا ونطر: هيا انصرفوا يا حثالة جنس الحيوان، ويا قمامة الأكوان، فإن من استعذب مثلكم طعم الاستعباد، لن يكون يوما سيدا من الأسياد!.