مع كل مرة تهب فيها رياح «انفصال إقليم كاتالونيا» على إسبانيا تتحرك المياه الراكدة فى بركة ماء تزعج الشعب الأسباني, الوضع بات مقلقا للجميع, يكفى أنه عندما يغادر مواطن كاتالونى لزيارة منطقة إسبانية أخرى فإنه يعيش ما يشبه عبورا للحدود الوطنية، فهناك يصعب العثور على رمز للسيادة الإسبانية, حتى مركز مدينة كاتالونيا لا يرفع فيه العلم الإسباني، لكن يمكن بسهولة إيجاد علم حركة استقلال كاتالونيا ونفس العلم يرفرف على كل مبنى بالمدينة باستثناء الكنيسة ومركز الشرطة. حتى الآن ليس لدى الكاتالونيين شيء ضد الإسبان لكنهم يريدونهم كجيران وليسوا أصحاب أرض، ولذلك أولى الكثيرون الاهتمام بالانتخابات البرلمانية المبكرة التى أجريت قبل أيام, و أسفرت عن فوز القوى الكاتالونية الداعمة لإستقلال الإقليم عن البلاد بالغالبية المطلقة, حيث حصل تحالف الانفصاليين تحت شعار "معا من أجل نعم" على 62 مقعدا، وحصلت قائمة حزب اليسار الكاتالونى المتطرف "الوحدة الشعبية" الانفصالية، أيضا على 10 مقاعد من أصل 135 مقعدا، أى أنهما حصلا على الأكثرية فى هذه الانتخابات بنسبة 48% التى تعد مدخلا لمرحلة جديدة ستؤثر على مستقبل إسبانيا كلها، لكن النتيجة لم تمنحهما حق تشكيل الحكومة منفردين، الأمر الذى كان ليوفر عليهم عناء الاستفتاء ليعلنوا الاستقلال مباشرة. لكن الإنفصاليون لم يعيروا الأمر الكثير من الإهتمام, فإعتبروا نتائج هذه الإنتخابات أشبه بإستفتاء على الإستقلال, وهو ما لخصه رئيس الإقليم المنتهية ولايته آرتور ماس الذى من المتوقع أن يمثل أمام القضاء منتصف هذا الشهر بتهمة الدعوة إلى "عصيان مدني" بتغريدة على "تويتر" قال فيها: "لقد انتصرنا"، والمعروف عن ماس أنه من أشد المتحمسين لانفصال كاتالونيا عن إسبانيا، بينما ذهب زعيم حزب اليسار الكاتالوني، انطونيو بانوس، إلى أبعد من ذلك فى تغريدة أخرى جاء فيها: "بدون ضغينة، نقول للدولة الأسبانية وداعا". كما وعد الانفصاليين أنصارهم باستقلال كاتالونيا فى عام 2017 على أقصى تقدير فى حال فوزهم بالانتخابات الإقليمية، وها هم فازوا، وباتوا يهددون باللجوء إلى حل راديكالى يتمثل فى فرض الاستقلال كأمر واقع وإعلانه من طرف واحد خلال 18 شهرا، فى ظل سلطات كاتالونية قادرة على بناء مؤسسات كالجيش والبنك المركزى والنظام القضائي، وطالبوا الكاتالونيين بعصيان التشريعات وعدم تطبيق القوانين الجائرة بحق الطبقات الاجتماعية الكاتالونية. هى إذن انتخابات كان يُراد بها الضغط على حكومة الرئيس المحافظ ماريانو راخوى رئيس الحزب الشعبي، لتنظيم استفتاء وطنى حاسم حول مسألة استقلال كاتالونيا كحل سياسى أولى قبل اللجوء إلى خيارات أخرى فى حال تعذره, من هنا تواجه الحكومة الإسبانية تحديا حقيقيا, لذلك تعمل على إيجاد بدائل قانونية وسياسية تجنبها الوصول إلى نقطة اللاعودة فى معركة كسر العظام مع القوميين الكاتالونيين أمام إصرار هؤلاء على الاستقلال رغم عدم جوازه دستوريا فى القانون القومى الإسبانى الذى ينص على أن إسبانيا "أمة موحدة لا تنقسم". لكن لا يبدو أن هذه البدائل تروق لقوى اليمين المحافظ المتغلغلة فى مؤسسات حساسة وفى مقدمتها الجيش. من هنا ندرك دلالات تصريح وزير الدفاع الإسبانى حين لمح إلى أن الحكومة مستعدة للتدخل عسكريا فى كاتالونيا فى حالة الإصرار على الانفصال باستعمال المادة 155 من الدستور التى تخولها اللجوء إلى مختلف الوسائل، بما فى ذلك تدخل الجيش، للحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها. غير أن خيار التدخل العسكرى يعد كلفة سياسية باهظة قد لا تستطيع إسبانيا تحملها فى الوقت الراهن. غير أن الأحزاب والحركات القومية المطالبة بالانفصال عن مدريد تستند إلى عوامل مختلفة فى تصريف خطابها لكسب عدد أكبر من المؤيدين، منها التى تتعلق بالتاريخ واللغة والثقافة، حيث يعتبر جزءا كبيرا من الكاتالونيين أنفسهم ورثة واحدة من أعرق ثقافات البحر الأبيض المتوسط، وأكثرها تأثيرا فى المنطقة، وهناك عوامل أخرى لا تقل أهمية، أبرزها الأزمة البنيوية العميقة فى النظام الإسباني، والتى تتجلى خصوصا فى استشراء الفساد واستغلال النفوذ فى مؤسسات الدولة، والأزمة الاقتصادية الخانقة التى تعصف بالبلاد منذ سنوات، وعدم قدرة النخب السياسية على تجديد خطابها ورؤيتها حيال قضايا وأسئلة كثيرة تواجه إسبانيا حاليا. ولكن السؤال الذى يتبادر إلى أذهان الكثيرين الآن هو: ما هى أبرز التأثيرات المتوقعة على إسبانيا وعلى الإقليم أيضا فى حال الإنفصال؟ من المتوقع أن تخسر إسبانيا حوالى 8% من إجمالى مساحتها فى حالة الإنفصال, كما سيخرج حوالى 7٫5 مليون نسمة هم تعداد سكان الإقليم من حسابات الأيدى العاملة الإسبانية, هذا بجانب حرمان إسبانيا من قوة اقتصادية كبيرة ومن مصدر حيوى للضرائب وستخسر حوالى 19% من إجمالى ناتجها القومي, ناهيك عن إنخفاض الدخل من السياحة لأن عاصمة إقليم كاتالونيا هى مدينة برشلونة المصنفة كواحدة من أعظم مدن العالم والتى تجذب وحدها ضعف عدد السياح الذين تجذبهم العاصمة الإسبانية مدريد. كما أن نجاح الكاتالونيين فى الاستقلال سيفتح شهية العديد من الحركات المتشددة ومنهم سكان إقليم الباسك الذين يعتبرون أكثر تطرفا من الكاتالونيين، والذين سيقومون بالبحث عن كيفية استقلال إقليمهم بشتى السبل, ليصبح إنفصال الإقليم كسقوط قطع الدومينو عند إسقاط القطعة الأولى. أما على الجانب الآخر فإن استقلال إقليم كاتالونيا سيتسبب فى خسائر كبيرة للإقليم على المدى القريب, فطبقا لما ذكره محافظ البنك المركزى الإسبانى لويس ليندى فإن استقلال الإقليم يعنى خروجه من منطقة اليورو وسيفقد قدرته على الدخول إلى النظام الائتمانى للبنك الأوروبى المركزي. على جانب آخر فإن فريق مثل برشلونة سيعانى بشدة على المستوى الاقتصادى والكروى فى حال ابتعاده عن الدورى الإسبانى لكرة القدم. أبرز الخسائر ستتمثل فى عدم قدرته على المشاركة الأوروبية لأن كاتالونيا بعد استقلالها مباشرة لن تكون تابعة للاتحاد الأوروبى لكرة القدم. يمكن القول إن الانتخابات الأخيرة خرجت بنتائج تخلط الأوراق، فالانفصاليون فازوا بالأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان المحلي، ومعارضو الانفصال يستطيعون أن يرفعوا فى وجه الانفصاليين ورقة الأغلبية الشعبية العددية التى كانت ضد الانفصال, إنها معركة حامية الوطيس بين مؤيدى انفصال لن يتعدى سقف استقلال افتراضي،على الأقل لفترة طويلة قادمة، وبين المدافعين عن وحدة إسبانيا مع معرفتهم بأن عدم وضع حل جذرى للأزمة سيبقيها جرحا نازفا سياسيا.