لم يدر في خلد أحد ممن دعوا الي حصول المرأة علي حقوقها السياسية في مطلع القرن الماضي أن الطريق الي هذه الحقوق ستطول, وأنها ستكون مليئة بالعقبات والمطبات, وأن الخطو فيها سيتعثر. كما لم يكن متصورا حينئذ, علي الأرجح أن هذه الطريقة ستكون متعرجة, وأن بعض مافيها من عقبات سيفرض العودة الي الوراء, وربما اعتقد كثير منهم أنه قبل أن ينتهي القرن الذي افتتحو ه بدعوتهم تلك ستكون المرأة قد نالت حقوقها السياسية كاملة, وقد حدث ذلك فعلا, ولكن ليس في مصر وعموم العالم العربي الإسلامي, حدث في أوروبا التي كانت الحقوق السياسية محجوبة عن المرأة فيها حتي أوائل القرن الماضي, مثلها في ذلك مثل نساء مصر وغيرهن في عموم الأمة. فعندما دعي الي هذه الحقوق في بلادنا وبعض بلاد الأمة, لم يكن الفرق كبيرا في هذا المجال بين مناطق العلم وثقافاته المختلفة, لم تكن المرأة جزءا من المشهد السياسي في أوروبا حتي الحرب العالمية الأولي, ولكن ما ان وضعت تلك الحرب أوزارها حتي بدأ الفرق يظهر ويزداد وضوحا فما أن عرفت المرأة الأوروبية طريقها الي الحياة السياسية, حتي انطلقت بلا قيود تذكر أو عراقيل يحسب حسابها. في بريطانيا مثلا, لم تدخل المرأة البرلمان( مجلس العموم) الا في نهاية عام1918 ولكن عندما وصلت سيدتان الي البرلمان المصري للمرة الأولي في يوليو1957 وكانت البريطانيات قد ملأن العشرات من مقاعد مجلس العموم في كل انتخابات. وبعد نصف قرن علي ذلك التاريخ, لم تحقق المرأة المصرية تقدما يذكر في تمثيلها البرلماني, ولذلك اقتضي الأمر تخصيص مقاعد محجوزة للمرأة في مجلس الشعب عام1979, ثم عام2009 لضمان تمثيلها كميا, ولكن دون أن يكون هناك مايضمن تميز هذا التمثيل وجدواه, مادام المجتمع الذي ارتد علي أعقابه غير مقتنع في معظمه بدور سياسي لها. ولعل ماحدث في مجتمعنا منذ الربع الأخير من القرن العشرين هو أكثر مالم يكن ممكنا لرواد دعوة تحرير المرأة ان يتخيلوه في مطلع ذلك القرن, كان مفهوم التقدم غالبا في تفكيرهم علي نحو أوجد اعتقادا بدا راسخا لدي كثير منهم, في أن التاريخ يسير في خط صاعد, وأن التحديث الثقافي الذي بدأت إرهاصاته في القرن التاسع عشر سيتواصل ويقود الي مجتمع حديث لايتنكر لخصوصيته ولكنه لايجعل هذه الخصوصية في الوقت نفسه سجنا يعيش وراء أسواره ويمنعه من استثمار طاقاته المعطلة. لم يتصور أمثال د. محمد حسين هيكل وقاسم أمين وسلامة موسي وأحمد لطفي السيد, ومن قبلهم رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق, أن الحرملك الذي ثاروا ضده سيتوسع ليصبح سمة عامة في مجتمع أخذ يميل الي اخفاء نسائه وراء أشكال شتي من الحجب لباسا وسلوكا ومكانا, وأن اختلاط الجنسين الذي بدا لهم من طبائع الأمور سينظر إليه باعتباره خارجا علي المألوف حينا, وعلي مقتضايات الشرع حينا آخر. لم يدركوا وقتها الأثر الفادح للاستعمار الغربي الذي جثم علي صدر أمتنا فأطلق مقاومة لم تكن فقط سياسية, فقد كان علي كثير من مجتمعات الأمة العربية والإسلامية ان تتحصن وراء تقاليدها الاجتماعية الموروثة التي اختلط كثير منها بالدين فاكتسب نوعا من القدسية, بالرغم من عدم وجود أساس يسنده في صحيح هذا الدين, ولكنها آليات الدفاع الذاتي اللاشعوري التي تبرز في مواجهة الآخر المختلف ثقافيا واجتماعيا حين يغزو البلاد ويتبدي خطره مباشرا علي العباد. لقد خلق وجود الفرنجة الغزاة في داخل الديار أنماطا من التفاعلات المجتمعية لم يحسب دعاة حقوق المرأة حساب آثارها المحتملة التي كان أهمها الخلط بين ما هو تقليد اجتماعي موروث وقيم دينية. لم يدركوا في زمنهم مغزي الكتاب الذي أصدره الشيخ حمزة فتح الله في نهاية القرن التاسع التاسع عشر تحت عنوان( باكورة الكلام علي حقوق النساء في الإسلام دفاعا عن حق المرأة في أن تصان بعيدا عن الأنظار وهجوما علي حقها في أن تشارك في بناء مجتمعها وأمتها. ربما ظنوا أن هذا الاتجاه سيكون جزءا من التاريخ وليس من المستقبل. ولكن ماحدث هو تقريبا وبشيء من التبسيط, عكس ماظنوه فاتجاههم الذي تخيلوه تعبيرا عن المستقبل هو الذي يبدو الآن كما لو أنه تاريخ. فالميل الأغلب في المجتمع المصري, وكثير من مجتمعات أمتنا, يرتبط باعتقاد واسع في وجود تعارض بين الدين وحضور المرأة, فلا يدور نقاش حول المرأة والسياسة, في الأغلب الأعم, الا انطلاقا من مقاولات دينية بغض النظر عن مدي ادراك المشاركين في هذا النقاش لها أو فهمهم دلالاتها أو قدرتهم اصلا علي الاحاطة بها. ويحدث ذلك بشأن مختلف مستويات دور المرأة السياسي, وصولا الي المستوي الأعلي وهو رئاسة الدولة ومن هنا أهمية الكتاب الجديد الذي أصدره مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع قبل أيام تحت عنوان( المرأة من السياسة الي الرئاسة) في هذا الكتاب يقدم مؤلفه الاستاذ محمد عبد المجيد الفقي دراسة فقهية مقارنة يعرض فيها مواقف مؤيدي الدور السياسي للمرأة ومعارضيه في الفكر الإسلامي وحجج كل من الفريقين بأسلوب سهل للقارئ وصعب علي من لا يحيط بموضوعه احاطة كاملة. وتتسم الدراسة بموضوعية محمودة ساعد المؤلف عليها إلمامه الواسع بموضوعه وحرصه علي الأمانة في تقديم وجهتي نظر مختلفتين, يميل هو الي إحداهما بحكم اقتناعه بأن الاسلام كرم المرأة وأتاح لها مجالا واسعا للمشاركة في بناء مجتمعها وتمكين أمتها ولكن ميله الي هذا الاتجاه الذي يقال عنه أكثر انفتاحا لايشمل قضية رئاسة الدولة, فالمؤلف يجيز حق المرأة فيها باعتبارها نوعا من الولاية العظمي. وهذا هو رأي المؤلف الذي نختلف معه عليه, من حيث المبدأ, فضلا عن أن رئاسة الدول في القرن الحادي والعشرين تختلف كثيرا عن الولاية العظمي في قرون كان الحاكم فيها مطلق اليد لاتقف سطوته عند حد ولافرق عنده بين سلطة تنفيذية يتولاها وسلطتين تشريعية وقضائية ينبغي ان يقوم علي كل منهما غيره. ولكن بمنأي عن هذا الخلاف, فنحن إزاء كتاب بالغ الفائدة إذ يقدم للمرة الأولي مايشبه المناظرة الضمنية بينهما علي نحو يوفر أساسا كان مفقودا لحوار موضوعي تشتد حاجتنا إليه.