لم يترك الوجدان الشعبى المصرى شيئا إلا وحاول أن يضفى عليه سماته الفنية الأصيلة، أو أن يستمد منه فنا من الفنون، وكان حج بيت الله الحرام بما فيه من روحانيات تتعلق بها القلوب مصدر إلهام لكثير من الفنون الشعبية، ومن بين ما استلهمه الفنان الشعبى المصرى من رحلة الحج ذلك الفن المعروف باسم الجرافيتى أو فن جداريات الحج. عُرفت جداريات الحج كمظهر من مظاهر الاحتفال بعودة الحجاج من الأراضى المقدسة، فكانت عائلة الحاج تستقبله بلوحات فنية تستخدم فيها جدران منزله الخارجية كخلفيات لها، واتسع الأمر حتى أصبح تقليداً شعبيا خاصة فى المناطق الشعبية والقرى والنجوع، ويُعاب على أسرة الحاج إذا لم تقم به، حتى أن الأسر الفقيرة التى كانت تسكن البيوت المبنية بالطين أوالطوب اللبن فى القرى والنجوع كانت تحرص على تزيين جدرانها الخارجية بالجرافيتى. ويستخدم الرسام الشعبى (صانع هذه الجداريات) أدوات غاية فى البساطة لا تتعدى –فى الغالب- الألوان الزيتية و"السقالة" الخشبية التى يقف عليها ليقوم بالرسم فى الأماكن العالية، وقد يستبدل هذه "السقالة" بأحد البراميل الضخمة الفارغة إذا لم تتوافر لدية "السقالة". أما المادة الفنية التى يصورها الرسام، فهى مستوحاة –غالبا- من المناسك، بدءا من وسيلة السفر حيث يصرون على تصوير "الجمل" بشكل واسع النطاق، فى إشارة إلى أقدم وسيلة سفر لأداء مناسك الحج، وذلك على الرغم من أن أحدا لم يعد يستخدمها الآن، ويصور الفنان الشعبى رجلا يقود الجمل بواسطة حبل، وفى بعض الأحيان يكون هذا الجمل حاملا هودج النساء، وهناك من يرسمون الباخرة ونادرا ما نجد من يرسمون الطائرة. وتحتل الكعبة المشرفة ومقام إبراهيم عليه السلام مكانة كبيرة لدى رسامى جرافيتى الحج، ولن تجد جدارية لا تتزين بصورة الكعبة التى تعتبر الرمز الرئيسى للحج، وقد تجد صورة للمسجد الحرام أو صورة للمسجد النبوى، هذا إلى جانب بعض الرموز الدينية المصورة أشهرها صورة خيالية أطلقوا عليها اسم "البراق النبوى الشريف" فى إشارة لرحلة الإسراء والمعراج التى ورد فيها ذكر البراق. ولا يقل "الخط العربى" أهمية عن الصور فى جداريات الحج، وتتصدر الكتابات تهنئة الحاج بأداء المناسك، وذلك بالصيغة المشهورة: "حج مبرور وسعى مشكور وذنب مغفور يا حاج.....", ثم يذكر اسم الحاج المحتفى به، هذا إلى جانب العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الخاصة بالحج، مثل الآية القرآنية: (وَلِلَّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ اِلَيْهِ سَبِيلًا)، الآية: (وَاَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاْتُوكَ رِجَالا وَعَلَي كُلِّ ضَامِرٍ يَاْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، والآية: (وأتموا الحج والعمرة لله)، والحديث النبوى الشريف: "من زار قبرى وجبت له شفاعتى"، والحديث: "ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة"، وغيرها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وقد شغلت هذه الجداريات اهتمام الباحثين المصريين والأجانب، باعتبارها ظاهرة شعبية تستحق الدراسة، فيصفها المستشرق البريطانيّ "إدوارد لين" فى أحد كتبه قائلا: "يزين المصريون مدخل منزل العائد من الحج قبل نحو ثلاثة أيام من وصوله، فيلوّنون الباب والحجارة باللونين الأحمر والأبيض، أما الجمال فتزين أحيانا باللون الأخضر أو الأسود أو الأحمر أو غيرها من الألوان بطريقة بدائية. وقد يوجِّه الحاج كتابا مسبقا إلى ذويه يطلب منهم إعداد مثل هذه الترتيبات". كذلك فقد قام باحثان غربيان وهما الكاتب آفون نايل والمصورة آن باركر اللذان درسا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، بجولة فى صعيد مصر، رصدا فيها هذه الجداريات، وضمناها فى كتابهما "لوحات الحج.. الرحلة العظيمة في الفن الشعبي"، حيث نشرا صور الجداريات وحكاية كل واحدة منها.