تداول بضائع وحاويات 4185 شاحنة في ميناء دمياط    قنا تعلن مواعيد غلق المحال التجارية خلال فصل الصيف    غدا.. ضعف المياه بالأدوار العليا بأطراف قرى غرب طهطا بسوهاج لإجراء الصيانة الدورية بمحطة مياه شطورة    بايدن يعرب عن استعداده لمناظرة مع ترامب قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة    الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 جنود أوكرانيين في يوم واحد    «إيقاف مبدئي».. عاصفة تهدد مباراة الترجي وصن داونز بالإلغاء    ننشر أسماء ضحايا انهيار شرفة منزل جراء هبوب عاصفة ترابية بأسوان    ثقافة القاهرة تقدم لقاءات تثقيفية وورش للأطفال في احتفالات ذكرى تحرير سيناء    المؤلف حسام موسى: مسلسل بدون مقابل يقدم هاني رمزي بصورة جديدة.. ونستأنف التصوير قريبا    مساعد وزير التعليم: 8236 مشروعا تعليميا ب127 ألف فصل    قرار عاجل من جامعة حلوان لبحث مشكلة الطالبة سارة| القصة كاملة    اقرأ في عدد «الوطن» غدا.. مصر تجري اتصالات مع كل الأطراف لوقف الحرب في قطاع غزة    مسؤول إسرائيلي: بلينكن يزور إسرائيل الأسبوع المقبل لبحث صفقة جديدة    تعرف على أهداف الحوار الوطني بعد مرور عامين على انطلاقه    الغيابات تضرب الاتحاد قبل مواجهة الجونة    النصر يتعادل مع اتحاد كلباء في الدوري الإماراتي    علاقة متوترة بين انريكي ومبابي.. ومستقبل غامض لمهاجم باريس سان جيرمان    برلماني : كلمة الرئيس باحتفالية عيد تحرير سيناء كشفت تضحيات الوطن لاستردادها    حماية الوعي الإيجابي.. الحصاد الأسبوعي لأنشطة «التضامن» في الفترة من 19 إلى 25 أبريل 2024    تنفيذ 15 حالة إزالة في مدينة العريش    رئيس COP28: على جميع الدول تعزيز طموحاتها واتخاذ إجراءات فعالة لإعداد خطط العمل المناخي الوطنية    وسائل إعلام إسرائيلية: سقوط صاروخ داخل منزل بمستوطنة أفيفيم    شركة GSK تطرح لقاح «شينجريكس» للوقاية من الإصابة بالحزام الناري    صحة دمياط تطلق قافلة طبية مجانية بقرية الكاشف الجديد    إصابة 6 أشخاص في انقلاب سرفيس على صحراوي قنا    الأوقاف تعلن أسماء القراء المشاركين في الختمة المرتلة بمسجد السيدة زينب    نائبة تطالب العالم بإنقاذ 1.5 مليون فلسطيني من مجزرة حال اجتياح رفح    تعرف على أعلى خمسة عشر سلعة تصديراً خلال عام 2023    سيد رجب: شاركت كومبارس في أكثر من عمل    السينما الفلسطينية و«المسافة صفر»    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    تكثيف أعمال التطهير لشبكات الصرف الصحي بمحافظات القناة    مصرع طفل سقط في مصرف زراعي بالفيوم    وكيل وزارة الصحة بأسيوط يفاجئ المستشفيات متابعاً حالات المرضى    مجلس أمناء العربي للثقافة الرياضية يجتمع بالدوحة لمناقشة خطة 2025    ميار شريف تضرب موعدًا مع المصنفة الرابعة عالميًا في بطولة مدريد للتنس    استقالة متحدثة أمريكية اعتراضًا على حرب إسرائيل في قطاع غزة    طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي شرقي لبنان    يحيى الفخراني: «لولا أشرف عبدالغفور ماكنتش هكمل في الفن» (فيديو)    الأمم المتحدة للحق في الصحة: ما يحدث بغزة مأساة غير مسبوقة    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية    مواعيد الصلاة في التوقيت الصيفي بالقاهرة والمحافظات.. وكيف يتم تغيير الساعة على الموبايل؟    بداية من الغد.. «حياة كريمة» تعلن عن أماكن تواجد القوافل الطبية في 7 محافظات جديدة    بعد حادث شبرا الخيمة.. كيف أصبح الدارك ويب السوق المفتوح لأبشع الجرائم؟    وزير التعليم العالي يهنئ الفائزين في مُسابقة أفضل مقرر إلكتروني على منصة «Thinqi»    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    أول تعليق من كلوب بعد تقارير اتفاق ليفربول مع خليفته    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى ذكرى رحيله ..
الأهرام تنشر مقالة مجهولة لنجيب محفوظ كتبها عام

لم يلتفت أحد من نقاد نجيب محفوظ الى تأثره بالأدب الروسى، كما أنه فى أحاديثه المستفيضة عن قراءاته للآداب الأجنبية التى تكشف عن اتساع ثقافته، يذكر الحضارة الفرعونية، وفلسفة اليونان، والتراث العربي، وأدباء أوروبا الغربية التى يصف أدبهم بالثراء والجمال.
أما الأدب الروسى، الذى ثقف العالم، فلا يرد له ذكر فى هذه الأحاديث إلا نادرا جدا، ويعد تولستوى الكاتب الأجنبى الوحيد الذى قام نجيب محفوظ فى سنة 1970، فى أثناء عمله فى مؤسسة السينما، بإعداد روايته «البعث» للسينما فى فيلم «دلال المصرية» الذى أخرجه حسن الإمام.
ومع هذا فقد يكون أثر الأدب الروسى بنزعته الأخلاقية وعقيدته الاشتراكية، حين نمتحن أعمال نجيب محفوظ، أقوى من الآداب الأخرى التى يشير إليها فى أحاديثه الصحفية، دون انتقاص بالطبع من أصالته أو من عبقريته الخاصة، التى تطبع أدبه المحايد بطابعه الذاتي، المادى والنفسي، وتجعله يكتب عن خبرة، غير منقاد لأى فكر نظرى.
وليس من السهل تحديد هذا الأثر للآداب الأجنبية إلا فى اتجاهها الواقعى النقدي، وفى أبعادها الاجتماعية، وفى عناصر المأساة التى تغلب على الأدب الروسى قبل ثورة 1917 وبعدها، هذا المقال عن الكاتب الروسى أنطون تشيكوف، كتبه نجيب محفوظ وهو لايزال طالبا فى الجامعة لا يعرفه أحد، ونشره فى جريدة «السياسة» فى 8 مايو 1933، ويعاد نشره بعد أكثر من ثمانين سنة، عمت فيها شهرة نجيب محفوظ الدنيا، وجلس بعد جائزة نوبل 1988 بين أدبائها الخالدين.
وتجمع الآراء على أن تشيكوف ألمع كتاب القصة القصيرة فى العصر الحديث، احتفت به الثقافة المصرية منذ أوائل القرن الماضي، بترجمة الكثير من قصصه، وتقديم مسرحياته، وبكتابة المقالات وفصول الكتب عن حياته التى تعتبر العمل، ويقصد به الاعتماد على النفس، أساس الثقافة، وتفيض على قلمه بالعطف على الفقراء، ورهافة الإحساس، وغنى الأحلام.
وسنة 1933 التى دفعت نجيب محفوظ لكتابة هذا المقال عن تشيكوف، وكتب فيها أيضا فى مجلة «المعرفة» مقالة أخرى عن مسرحيته «الخال فانيا»، هى السنة التى نقل فى بدايتها رفات الكاتب العظيم من المقبرة التى يرقد فيها منذ وفاته فى 1904 إلى مقبرة جديدة فى موسكو، قامت الحكومة الروسية بإقامتها فى حديقة الكرز.
وبذلك رد الاعتبار لكاتب روسيا، الذى لم يسر فى جنازته وراء نعشه سوى مائة شخص.
وهذا يعنى بجلاء، أن نجيب محفوظ كان على علم بالأحداث المتصلة بالثقافة والمثقفين فى أنحاء العالم، ومن الطبيعى أن يصاحب هذا العلم قراءات فى آدابها نلمسه فى أعماله.
واذا كانت الثقافة المصرية قد أطلقت على يوسف إدريس فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى اسم تشيكوف مصر، للتشابه بينهما فى الحس الإنسانى، وفى منهج الكتابة، ومهنة الطب، فلن يكون من قبيل المبالغة أن يقال إنه قلما نجد كاتبا من كتاب القصة فى كل اللغات، بمن فيهم بالطبع نجيب محفوظ، لم يمسه قبس أو نفحة من فن تشيكوف، ومن حكمته وشاعريته وتفاؤله، أو لم يتأثر بالأدب الروسى غير الدعائى، الذى يزخر بالمعانى الإنسانية المستلهمة من الظروف الاجتماعية التى عبر عنها هذا الأدب، من خلال أبنيته الفنية ومضامينه، سواء فى صراع الإنسان المغلوب على أمره، فى حياته اليومية من أجل البقاء، أو فى معاركه فى الحروب ضد الطغاة الذين يسقطون بعد أن تسقط امبراطورياتهم .. وإلى نص المقالة.
أنطون تشيكوف.. الأديب الروسى
فى 19 يناير سنة 1860 ولد أنطون تشيكوف ببلدة تاجازوج فى أسرة فقيرة تافهة التاريخ، إذ كان جده عبدا لأحد الموسرين وقد اشترى حريته بما وفره من مال سيده، ونشأ ابنه (والد أنطون) مقتصدا مدبرا فاستطاع أن يترقى فى وقت قصير من كاتب حقير الى صاحب حانوت وعميد أسرة مكونة من أربعة أخوة وأخت واحدة، وكانت الأسرة محافظة شديدة المحافظة، عظيمة الرعاية للتقاليد الدينية، فتلقى الأطفال تربية دينية عن الأب وعن الأم، وفى البيت وفى الكنيسة وبلغ من شدة غرام الوالد بموسيقى الكنيسة أن ألحق أطفاله جميعا بزمرة. اختلطت أصواتهم الرفيعة وهى تنشد الأناشيد الدينية، على أن هذه التربية الدينية وما بذل فى سبيلها من شدة وعناية لم تأت إلا بعكس ما رجى منها، وقد كتب أنطون فى كهولته يقول «عندما أستعيد ذكرى طفولتى، تبدو فى مخيلتى مروعة، لما كنت أغنى وأخوتى فى الكنيسة كان الناس يلقون علينا نظرات إعجاب ويثنوا على والدينا، ولكن كان يجرح نفوسنا إحساس ذلة كأننا من عبيد السفن الصغار»، ولكن هذه النشأة لم تضع هباء لأن الترتيلات الجميلة نقشت آثارا خالدة فى نفس تشيكوف وأشربت قلبه بالهيام بها مما كانت نتيجته ميل الفتى الى اللغة الروسية واهتمامه بها.
ولما شب قليلا التحق بمدرسة الأبرشية وهنالك كابد مدرسا شديد القسوة ضحل الفطنة والمعرفة، بما أضاع عليه هذا العهد السعيد، وربطه فى ذاكرته بالجفاف والفقر، وجعله يكرر دائما أنه ليس له طفولة!
ثم التحق بمدرسة الأجرومية، وفى باديء عهده بها عرف بالكسل والغباء وإن كان حبيبا الى النفوس، فذلك لنأيه بنفسه عن ميدان المنافسة ولابتسامة ساحرة لا تفارق شفتيه، إلا أنه فى أواخر عهده بهذه المدرسة حدث انقلاب فى نفس الفتي، فقد زال خموله وانفض عنه الكسل وصقل مخه وانحسر عنه الغباء، وتدفق فى عروقه دم النشاط والحيوية من غير أن يسلبه ذلك روح الفكاهة فبقى مرحا يقرأ الروايات بصوت مرتفع حتى يثير الضحك فى الصدور، ويغير من صوته، ويحاكى مختلف الأصوات، ويبدل من ملامح وجهه حتى لا يكاد يعرف، واخوانه من حوله يدهشون ويسرون.
ثم كان أن التحق بمدرسة الطب، وكان أن عبس الحظ لأبيه فهوى الى قرار الخراب حتى اضطر الى العمل ككاتب بسيط ولكنه يكف الأسرة بما اضطر معه الفتى أن يعمل لينقذ الأسرة من الموت جوعا، وفى الحق لقد كانت هذه الفترة من حياة الأديب من أشق ما عاناه فى حياته، فهو طالب طب وأنت تدرى ما يقوم به طالب الطب من واجبات شاقة، وهو كاتب قصصى يؤلف لتسلية القراء بعد الغذاء، وأنت تعلم ما يعانيه الكاتب اذا كان دافعه الى الكتابة التكسب وسد العوز لا الإلهام والحب، ثم إنه يعيش فى حى حقير تختلط ضوضاء الأطفال بصراخ الفتيان مثل هذه الحياة أقرب الى الفناء والعدم لأننا لا نتذوق جمال الوجود ونحس بالحياة إلا فى الساعات التى نقف فيها قليلا لنتأمل ونتملي، وكان يعلم أن أدبه غث وقد حاول أن يكتب كما يريد ويتمنى ولكنه لم يلق تشجيعا ما.
وأخيرا رضيت الحياة أن ترفع عنه بعض أثقالها، فنال دبلوم الطب والتحق باحد المستشفيات للتمرين، ولأول مرة أتيح له التعرف الى لون من ألوان الحياة وهو الحياة الريفية واختلط بكثير من الريفيين والضباط ما كان له كبير الأثر فى خياله فيما بعد، ثم طلبه مدير جريدة نوفوفريميا ليكتب له قصصا محترمة ولعله سر غاية السرور لتخلصه من كتابة هذه القصص التافهة ونشط هنا لعمله نشاطا لفت إليه نظر بعض كبار الأدباء، حتى إن جريجوريفتش كتب له يقول «إن لك ملكة حقيقية، ملكة ترفعك الى مكان يسمو على دائرة أدباء الجيل الحديثين»، فبعد أن كان غرضه المال أصبح يتطلع الى الإجادة الفنية حتى فاز بجائزة بوشكين، وأخذ صيته فى الذيوع، إلا أن الإجهاد المستمر والعمل المتواصل نالا من صحته كل منال وأنهكا قواه، فبدت عليه علامات السل! وكم كان ارتياحه لذلك عظيما! ولكنه أخفى الأمر وكتمه فى صدره حذرا أن يتسرب الى علم والدته التى يشفق عليها من الحزن والألم.
ولم يكن هذا ولا غيره بمانعه عن مواصلة عمله، فكتب للمسرح روايات ناجحة مثل «ايفانوف» و«الخال فانيا» وقد صد عن التأليف للمسرح زمنا بسبب سقوط إحدى رواياته، ولولا أن أعيد تمثيلها فى موسكو ولاقت نجاحا باهرا لحرم المسرح من قلم تشيكوف.
زادت آفاق حياته وزخرت بالتجارب والفهم الصحيح للأمور، وتحسنت أحواله المالية فرحل الى موسكو إلا أن المرض كان يغالبه مغالبة شديدة حتى انكشف أمره وعلم به من كان يشفق عليه أن يعلم به، واضطر الى نفى نفسه من وطنه الحبيب الى جنوب فرنسا وهو أسيف، وهنالك بقى زمنا يكابد آلام المرض ويعالج لواعج الشوق والحنين الى موسكو وأناس بموسكو، ولما أحس بتحسن فى صحته سارع بالعودة الى الوطن، ولأول مرة نرى حياته تصطبغ بذلك اللون الوردى الجميل، فقد عرف ممثلة هى أولجا ليوناردوفنا، وألف الحب بين قلبيهما فتزوجا وساحا سويا ينعمان بالحب، وعاد المرض يطارده ويحرمه من الطمأنينة وعاد هو الى منفاه تاركا زوجته ترجع الى موسكو لتباشر عملها، وتستطيع أن تتصور حاله وهو صريع القلب والصدر بعيدا عن وطنه.
واشتدت عليه وطأة المرض فرحل الى ألمانيا حيث لحقت به زوجه، وتحدثنا الزوجة عما كان يعانيه زوجها من الآلام، وتشير إشارة خاصة الى بقاء الصفاء مخيما على روحه التى احتفظت بفكاهتها ودعابتها، وهكذا لم تملك إلا أن تضحك وهى جد جزعة عليه، وأخيرا هزم ذلك الجسم الريفى القوى أمام المرض الخبيث وقضى صاحبه الأديب.
كان فى طبيعة تشيكوف ما يمنعه عن الإبانة الصريحة عن ذات نفسه، فلم يخلف لنا مذكرات شخصية تنفع المؤرخ النفساني، حقا إن رسائله كثيرة ولكنها فى الغالب تتناول مواضيع عامة أدبية وفلسفية وعلمية فالمرجع الثقة لمن يريد أن يتعرف الى هذه النفس الأدبية هو مؤلفاته وبعض رسائله الخاصة، ومن الحق علينا أن نتكلم عن إيمانه، فإن إيمان الرجل أو عدمه أدق مقياس يزن أفعاله وتصرفاته، وتشيكوف يقول صراحة إنه فقد الإيمان وهو صغير، وطال عهده بهذه الحرية الدينية وبقى يلهو ويعبث ويعمل من غير ما يكدر صفو قلبه بأسئلة الايمان الملحة التى قد تبلغ حد العذاب، وكأنك بعد ذلك تحس بالجد فى كتابته، فكأن نظرته إلى الحياة حالت وكأن الحياة فى نظره كبرت، وتتوالى أسئلته عن الحياة والموت. وتكاد تلمس المرارة التى يفيض بها قلبه المرهف الحس، وخرج عن قبة نفسه ليواجه المشاكل الاجتماعية الكثيرة، واستحوذ عليه اهتمام كبير بها، أغراه بالتعرض لأهوال السفر لمجرد التعرف إلى أناس جدد وأخلاق جديدة.
ويظهر لنا اهتمامه هذا واضحا فى حادث تنازله عن لقب العضوية بأكاديمية العلوم احتجاجا على الغاء انتخاب ماكسيم جوركى بسبب مذهبه السياسى.
وقد اهتم كبقية الكتاب الروس بمسائل العمل. ونحن ننقل هذه الكلمة له لتعلم منها شيئا عن خيال الاصلاحى قال: «إذا كنا جميعا سواء من يسكن المدن أو من يقيم فى الأرياف نرضى بأن نقتسم فيما بيننا العمل الذى يبذله البشر فى اشباع حاجاتهم الطبيعية، فإن أحدا منا لا يمكن أن يعمل أكثر من ساعتين أو ثلاث كل يوم. نبقى بعذ ذلك أحرارا بقية اليوم، ونهب هذا الوقت للعلوم والفنون. كلنا نبحث عن الحقيقة وعن معنى الحياة. وأنى لواثق فى أن ينكشف لنا وجه الحق. ويستطيع الانسان أن يخلص نفسه من فزع الموت الدائم الذى يصليه نار العذاب».
وفى النهاية اهتدى الأديب إلى الايمان وكان ايمانه بالانسان بمستقبله وبرقيه، وانك لتحس بإيمانه هذا إذا قرأت له احدى رواياته، ويتأكد احساسك كلما أمعنت فى القراءة، نعم إن حياته الانسان الواقعية تثير سخطه ورحمته، وهو دائما يصور شقاء الانسان ويتهمه بأنه السبب فى كل ما يحيق به من أسباب الألم بما تفيض به نفسه من ميول للتشاحن والبغضاء وعواطف الأثرة والشر. ويخيل اليك وأنت تقرأ بعض رواياته أنك تقرأ «البيت الكسير الفؤاد لبرناردشو» إذا لاحظت الموضوع والغرض، فهو يتخيل العالم أو أوروبا فى أسرة كل فرد من أفرادها مصاب بما يضلله عن طريق السعادة. فإذا قاربت الرواية النهاية سمعت نداء عذبا إلى السعادة وتفاؤلا صريحا بالمستقبل السعيد.
على انه بقى وسط هذه المذاهب الاجتماعية والمشكلات الانسانية فنانا خالصا لوجه الفن، وقد قال فى ذلك: «الميل جذوره فى عجز الانسان عن أن يعلو عن التافهات من الأمور، الفنان ينبغى أن يبقى شاهدا نزيها فقط، لست حرا ولست محافظا ولست مصلحا. انى أحب أن أكون فنانا فقط».
نجيب محفوظ
جريدة السياسة - 8 مايو 1933


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.