فى سنة 1986 سافرت إلى موسكو لحضور صدور مجلد بالروسية يتضمن ترجمة لثلاث روايات لي. ترجمتها الدكتورة فاليريا كيربتشينكو. وتضمنت الرحلة سفرى بالقطار إلى ليننجراد. وهناك كانت مقبرة أول مصرى يسافر لروسيا القيصرية فى القرن التاسع عشر ليعلم الروس اللغة العربية. كان الرجل رائداً بكل معانى الكلمة. المؤسف والمحزن أنه وقت سفره إلى روسيا سافر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى إلى باريس. وانظر إلى حجم الشهرة الكاسحة والمكتسحة التى طبقت الآفاق لرفاعة رافع الطهطاوي. تواجهها حالة من الإنكار وعدم المعرفة والتجاهل للشيخ عياد الطنطاوي. الآن بعد أن أصبحت المياه دافئة بين القاهرةوموسكو بعد رحلة الرئيس عبد الفتاح السيسى ولقائه الخامس مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين. لا بد أن يبقى لنا هامشنا الثقافى الذى نتحرك فيه ونهتم به ونحاول إعادة الحياة إليه. والشأن الثقافى هو الباقى إذا ما قورن بتقلبات العمل السياسي. فالثقافة تعنى العقل والإدراك ومعرفة العالم والقدرة على التعامل معها. وربما كانت حكاية الشيخ محمد عياد الطنطاوى الأزهرى الذى كان أول من علَّم الروس اللغة العربية تصلح أن تكون مدخلاً لتلاحم ثقافى وتعاون فكرى بين البلدين بعد الجفوة التى طالت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى وحتى سنوات قليلة. ولولا الاهتمام المتزايد من قبل الرئيس السيسى بالشأن الروسى لظلت هذه البلاد بعيدة ونائية عنا لا تصل إليها أسماعنا ولا تراها أبصارنا. اسمه بالكامل: محمد بن سعيد بن سليمان عياد المرحومى الطنطاوى الشافعي، ولد فى قرية نجريد، من قرى الغربية سنة 1810. بعد حملة نابليون بونابرت. وانبثاق التاريخ عن محمد على المغامر الجسور، تاجر الدخان الألبانى الذى قرر أن يستنبت طموحه، وأحلامه التى لا تعرف المنتهى فى تربة وادى النيل. التحق الطنطاوى بالكُتاب فى سن السادسة. وكانت شهرة طنطا فى تحفيظ القرآن تماثل شهرة القاهرة فى دراسة علوم الدين، وقد قيل: ما قرآن إلا أحمدي، وما علوم إلا أزهرية. فى سنة 1823م، رحل محمد إلى القاهرة، دخل الأزهر الشريف، وكان من رفاقه فى الدراسة: رفاعة رافع الطهطاوي، الذى أصبح صديقاً له، على الرغم من أن الطهطاوى كان يكبره بعشر سنوات. قضى فى الأزهر عشر سنوات مدرساً، وانقطع عن التدريس فى بعض الأحيان بسبب مرضه، وسيصبح المرض رفيق رحلته وأنيس غربته، وسيقعده عن العمل فى الوقت الذى يصل فيه إلى ذروة المعرفة والانتشار، والمرض لم يكن مشكلته الوحيدة، مرتب الأزهر كان ضئيلاً، وكان لا بد من عمل لكى يعيش، وهكذا عمل طنطاوى فى وظيفة ثانية. كانت عبارة عن تصحيح الكتب المطبوعة بعد أن عرفت مصر المطبعة. فى سنة 1840 وجهت الدعوة بإذن من قيصر روسيا، وموافقة محمد على باشا إلى الشيخ الطنطاوى ليسافر إلى روسيا ليقوم بتعليم اللغة العربية وآدابها فى القسم التعليمى التابع لوزارة الخارجية الروسية فى بطرسبرج، وكانت عاصمة روسيا القيصرية. غادر الطنطاوىالقاهرة، يوم السبت 16 مارس 1840. وصل إلى الإسكندرية يوم 22 مارس، غادر إسطنمبول فى 23 أبريل، ركب باخرة روسية، وخلال أربع وخمسين ساعة وصل إلى أودسا، أنفق الطنطاوى هذه الساعات فى دراسة اللغة الروسية. وفى يوم السبت 29 يونيو 1840 وصل لبطرسبرج، بعد سفر دام ثلاثة أشهر ونصف الشهر، قضى منها شهرين فى الحجر الصحى بقرية موهلوف. عاد إلى مصر زائراً سنة 1844، ثم رجع إلى روسيا حيث بقى بها حتى توفاه الله. وفى 8 أكتوبر 1847، عين أستاذاً فى الجامعة، وكان ميدان عمله قد اتسع، فشمل الجامعة علاوة على وزارة الخارجية الروسية، وفى تدريسه كان يجمع بين الطريقة النظرية والطريقة العلمية. كان يدرس قواعد اللغة العربية، ويشرح أمثال لقمان ويقرأ قطعاً تاريخية من مقامات الحريري، وكان يدرس الترجمة من الروسية إلى العربية، والخطوط العربية، وقراءة المخطوطات والمحادثة باللغة العربية، بدأ يدرس تاريخ العرب. فى سنة 1855 افتتحت كلية اللغات الشرقية، وكان افتتاحها حدثاً مهما بالنسبة له، ولكن يبدو أن لحظات تحقيق الأماني. هى نفسها، لحظات فقدانها، ففى أيام المجد، خانته صحته، والعلة التى تصيب الجسد فى الغربة تصبح مأساة، وهكذا أصبحت حياته نوعاً من الهم المتصل. وفى هذا العام نشر آخر مقالة له بالفرنسية، وقال آخر قصيدة شعرية فى رثاء القيصر نيقولا الأول. فى سبتمبر 1855، أصيب بشلل فى قدميه، والأوراق التى تركها الرجل بخط يده عن هذه الفترة، تكاد الدموع تنزف من الحروف المكتوب بها. فى أبريل 1856، طلب من الأطباء أن يمدوا له إجازته المرضية ثمانية وعشرين يوماً، ليسافر إلى بوهيما، للعلاج بمياهها المعدنية الساخنة، ولا يدرى الإنسان لماذا لم يطلب العودة إلى مصر، ويدفن الجزء المصاب منه فى رمالها الساخنة؟ فى مارس من العام التالي، طلب السفر للخارج للعلاج، والخط المكتوب به الطلب، وتوقيعه عليه، يشى بمدى تدهور حالته الصحية. وفى 7 فبراير 1861 تقاعد عن العمل. ثم قدمت الجامعة طلباً لتقدير معاش تقاعدى للطنطاوي، بمناسبة مرور عشرين عاماً على خدمته بروسيا، بسبب مرضه، واستدعى من أجل توقيع الكشف الطبى عليه، فأجاب إنه لا يمكنه المجيء بسبب المرض. ويبدو أن الكشف الطبى قد جرى فى بيته. واستعفى من الخدمة فى 31 يناير 1861. أما التقاعد فقد تقرر فى يوليو من السنة نفسها بمبلغ 1429 روبلا، ولم يطل زمان انتفاعه به، فقد توفى فى 29 أكتوبر 1861، وكما يذكر فى شهادة لإمام مسجد بطرسبرج، أنه مات من مرض الأكلة. للشيخ طنطاوى كتاب مهم عنوانه: وصف روسيا. لا أدرى إن كان مكتوباً بالروسية أم بالعربية؟ لكن النبش حول هذا الكتاب ومحاولة نشره تحيى الذاكرة بقديم العلاقات بين القاهرةوموسكو. رغم أن العاصمة فى ذلك الوقت كانت بطرسبرج. فضلاً عن أن قصة الرجل تستحق الكتابة. ولم يكتبها حتى الآن سوى المستشرق الروسى كراتشوفيسكي. ولولا ما كتبه كراتشوفيسكى من معلومات ما تمكنت من كتابة هذا المقال. ونحن لم نفعل له شيئاً. لمزيد من مقالات يوسف القعيد