لم يلتفت الكثيرون لتغريبة الشيخ محمد عياد الطنطاوي(1815 1861), ويعود الفضل للمستشرق الروسي المعروف اغناطيوس كراتشوفسكي في كشف الستار عن هذه التغريبة, في الكتاب الذي ترجمته كلثوم عودة منذ عدة سنوات وصدر في سلسلة ذاكرة الكتابة المحترمة عن هيئة قصور الثقافة. تغريبة الشيخ الطنطاوي تعد عملا تراجيديا بامتياز, لرجل قدر له أن يموت في أرض غريبة, وتبقي رفاته بعيدا عن الوطن, مثلما بقيت مصنفاته وتعليقاته وانتاجه الادبي والفكري مجهولة وفي أرض غريبة, ومن الصعب تصور انقاذها. من جانب آخر, تأخر طويلا أكتشاف في سيرة الشيخ,بل ان أحدا لم يتناوله قبل كراتشوفسكي إلا أحمد تيمور الذي كتب عنه مقالا في مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق. أما كراتشوفسكي فقد عكف علي دراسة المصادر التي تتناول تاريخ حياته مبعثرة في بلاد مختلفة ويتعذر جمعها؟! إلا بالجهود المضنية التي بذلها الرجل. كانت البداية في طنطا حيث ولد الشيخ الطنطاوي عام1810 في احدي القري الصغيرة. حفظ القرآن وحضر بعض دروس الفقه والنحو, وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره, رحل الي الازهر. في تلك الاثناء كان محمد علي قد صعد الي أريكة حكم مصر, وبدأ في عمليات التحديث المتوالية, حيث انشأ عددا كبيرا من المدارس التابعة للجيش, وأرسل البعثات الي الخارج, وبات الاحتياج للترجمة شديدا وكذلك تحرير الترجمة, فأغلب من يعرفون اللغات الاجنبية لايجيدون العربية. وعلي الرغم من أنه كان بوسع الشيخ الطنطاوي بعد تخرجه في الازهر أن يمارس هذه المهنة المرحومة وذات العائد المضمون, إلا أنه كان عليه أن يلتزم بشرط وحيد وهو عدم الجمع بين التحرير والتدريس بالأزهر, فاختار التدريس, وفي الوقت نفسه تعرف علي العلماء الاوربيين الشباب الذين تضاعفت أعدادهم بسبب مشروعات محمد علي, وقام بالتدريس لهم, ومن بينهم بعض المستشرقين. وسرعان ما اشتهر اسم الشيخ الطنطاوي في صفوف الجالية الاوروبية, وكان من بين تلاميذه من المستشرقين روسيان هما موخين وفرين اللذان يخدمان في القنصلية الروسية العامة, ومن خلالهما تمت دعوته للتدريس في روسيا بإذن من القيصر.. وكان هذا عام1840. وهكذا.. في سن الثلاثين رحل الشيخ إلي أقصي شمال المعمورة, تعد الاولي من نوعها, وظلت فريدة عشرات السنين, ولم يحدث أن غادر أحد مشايخ الأزهر وطنه, ليقترب ويلقي بنفسه في بلاد تبعد كل هذه المسافات الشاسعة, وبين من لا يتكلمون العربية, وفضلا عن اختلاف العادات والتقاليد والثقافة. علي أي حال, كان السفر الي روسيا حدثا أكثر أهمية, بل يعد حدثا عاصفا في حياة الشيخ الذي لم يكن قد سافر من قبل قط أبعد من المسافة بين قريته بالقرب من طنطا, والقاهرة حيث درس في الازهر. تعلم الشيخ الروسية أول الأمر, ثم غادر الاسكندرية علي متن سفينة ركبها للمرة الاولي في حياته, وبعد ثلاثة أشهر ونصف الشهر وصل إلي بطرسبرج!! وفي أوائل أغسطس عام1840 بدأ الطنطاوي في القاء محاضراته في جامعة بطرسبرج. وبمناسبة وصوله الي روسيا, كتب أحد المستشرقين مقالة في احدي المجلات الروسية المتخصصة قال فيها: ومن هذا الرجل الجميل في لباس شرقي, وعمامة بيضاء, وله لحية سوداء كجناح الغراب, وعينان تشعان بأشعاع غريب, علي وجهه سمة الذكاء, وقد لفحت الشمس بشرته, وليست بالطبع شمس بلادنا الشمالية الباردة. لقد رأيته مرتين يسير بخطوات وئيدة علي بلاط شارع نفسكي.. انه ضيف جديد من ضفة النيل هو الشيخ الفاضل محمد عياد الطنطاوي. ومما يثير الحيرة أن الطنطاوي تحمل غربت علي مدي عشرين عاما تالية لم يقطعها إلا بزيارة واحدة الي مصر عام1844. وفي صيف عام1843 قام برحلة الي البلطيق وفنلندا, كما تعلم الفرنسية الي جانب الروسية بالطبع ونال رتبة الأستاذية كرسي الآدات الشرقية عام1855, فكان المصري بل العربي الوحيد الذي نالها علي مدي عمر الجامعة العريقة. أما تدريسه للعربية فكان يجمع بين الطرق النظرية والعملية,حيث قام بتدريس قواعد اللغة وشرح أمثال ابن لقمان ومقامات الحريري كما درس الترجمة من الروسية الي العربية وقراءة المخطوطات والمحادثة وتاريخ العرب من جانب آخر, وبسبب اجتهاده وعمله المتواصل منح عدة ألقاب وأوسمه من بينها الشكر القيصري عام1850 علي جهوده في تعليم القوقازيين في جامعة بطرسبرج.. وفي عام1852 حاز ميدالية من ملك نير نير, وفي العام نفسه أهدي إليه ولي العهد خاتما مرصعا بالماس والجواهر عرفانا بجهوده الخاصة لكن عام1855 كان عاما سيئا بل بالغ السوء بالنسبة للشيخ, فقد أصيب بشلل في ساقيه والمعلومات حول مرضه الذي استمر نحو خمس سنوات محدودة, وليس معروفا ماإذا كان قد سافر خارج روسيا للعلاج إلا أنه كان يمر بفترات نقاهة, حتي تقاعد نهائيا في يناير1861, وحصل علي معاش قدره1429 روبلا, وكان متزوجا من مصرية تعيش معه هناك اسمها أم حسن غير أنها ماتت قبله بعد أن أنجبت له ابنه احمد والأخير حصل علي الجنسية الروسية, إلا أنه باع مخطوطات أبيه لمكتبة الجامعة, وكشف كراتشوفسكي عن أن إبن الشيخ الطنطاوي أنجب بنتا سماها هيلانة وأضاف: وقدم الوصي( سولفيوم) في3 ابريل1886 طلبا الي ادارة الجامعة بأن يعطوه وثيقة عن طنطاوي الإبن ليقدمها لمجلس الأشراف لإدخال حفيدة طنطاوي هيلانة في طبقة الاشراف, ولذلك يمكن تربيتها في دار الايتام ويضيف أيضا: وهكذا نري ان حفيدة طنطاوي غدت مسيحية وبهذه الوثيقة القصيرة تضيع آثار أسرة أصلها من بلاد الأهرام في روسيا. أما إنتاجه الفكري واللغوي أثناء إقامته في روسيا فيتميز بالغزارة والغريب أن تراثه بكامله مازال مجهولا لدينا في مصر ففي العقائد مثلا كما كتب كرا تشوفسكي ترك الطنطاوي خمسة أعمال كبيرة مابين شروح وتعليقات مثل غنية المريد في علم التوحيد وحاشية علي رسالة الباجوري.. وحاشية علي التحفة السنية والعقائد السنية وله في النحو والصرف خمسة أعمال أخري وفي البلاغة ثمانية, فضلا عن كتابيه في الجبر والحساب..وغيرها وغيرها. المصنفات المشار اليها موجودة بالفعل في مكتبة الجامعة في بطرسبرج ومحفوظة هناك لم تجد بعد من يحققها وينشرها هذا فضلا عن مؤلفاته المعروفة بعناوينها فقط وفقدت للأسف مثل تعليق علي حشاية المقولات للعطار ورسائله وأشعاره وتاريخ حياته. تلك هذ الخطوط العريضة لتغريبة الشيخ الطنطاوي اول من غادر وطنه ليعمل أستاذا, والعربي الوحيد الذي شغل كرسي الأداب الشرقية في جامعة بطرسبرج.. مات شيخ غريبا ولم يبق من أثاره سوي نصب تذكاري في قرية فولكوفو القريبة من بطرسبرج, وفي مقبرة التتر, كتب عليه جملتان بالعربية والروسيةبالعربية كتب علي النصب: هذا مرقد الشيخ العالم محمد عياد الطنطاوي الذي كان مدرس العربية في المدرسة الكبيرة الامبراطورية ببطرسبرج المحروسة وتوفي في شهر جمادي الثاني سنة1278 ه عن خمسين سنة. أما بالروسية فكتب: أستاذ جامعة بطرسبرج ستاتسكي سوفيتنيك وهي رتبة مدنية كانت موجودة في روسيا القيصرية الشيخ محمد عياد الطنطاوي..توفي في27 أكتوبر سنة1861 عن خمسين سنة..