يأتي مؤتمر الفتوى إشكاليات الواقع آفاق المستقبل في سياق الريادة المصرية، فقد كنّا منذ وقت قريب نعيش، وما زلنا، أصداء الحدث التاريخي الذي قدمته مصر هدية للعالم، وهو افتتاح قناة السويس الجديدة، التي تعد فاتحة خير إن شاء الله على مصر. وفي هذا السياق يأتي هذا المؤتمر الذي تعقده دار الإفتاء المصرية تحت رعاية كريمة للسيد رئيس الجمهورية، وهو يمثل حلقة من حلقات الريادة المصرية في المجال الديني. والفتوى أمرها جليل وشأنها خطير، والإقدام عليها بغير علم معدود من جملة الكبائر؛ لذا فقد ذكر الله تعالى المجترئ عليها مقرونًا بالشرك، والكبائر، والفواحش، والآثام؛ فقال سبحانه: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» [الأعراف: 33]. وقد روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ". والفتوى ليست عملا ساذَجًا بسيطًا، بل هي أمر مركب، موقوف على ترتيب مقدمات، وإعمال فكر وإمعان نظر للوصول إلى المطلوب. ومن هنا جاء قول العلماء: "الفتوى صنعة"؛ يقصدون به أنها عملية دقيقة تحتاج من القائم بها أن يكون عالمًا بالشرع الشريف؛ بإدراك المصادر، وفهمها، وإنزالها على الوقائع المتجددة التي لا تنتهي حتى يوم القيامة . وقد كان الإفتاء منذ فجر التاريخ – وسيظل - أحد أهم الوسائل لنشر وتبليغ الأحكام الشرعية؛ إذ إن الفتوى في طبيعتها وأصلها ما هي إلا بيان لحكم الله في الواقع، ولذلك فهي قيام بأمر نسبه الله عز وجل لنفسه في قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم)[النساء : 176]. ومن هنا تأتي أهمية وضرورة الفتوى في الإسلام، من حيث كونها حلقة الوصل بين أحكام الشريعة من جهة، وواقع الناس من جهة أخرى، وذلك لإقامة أمور معاشهم ومعادهم وفق أحكام الشريعة، وفي هذا تحصيل الخير لهم، إذ الشريعة – كما بيَّن أهل العلم – ما جاءت إلا لتحصيل المنافع والمصالح للبشر. ولئن كانت وظيفة الإفتاء بتلك الأهمية والمكانة فإن تلك الوظيفة بدأ يشوبها كثير من الخلل والانحراف عن مسارها من خلال عدة أمور أهمها : أن الفتوى أصبحت سلاحا مشهرا في تبرير العنف وإراقة الدماء وزعزعة استقرار المجتمعات، حتى رصدنا وشاع بيننا ظاهرة يكثر الكلام عنها في الإفتاء المعاصر وهي ظاهرة " فوضى الفتاوى " التي أثبت الواقع أن لها آثارا سلبية وخطيرة على الأفراد والدول. من هنا جاءت أهمية إقامة مؤتمر عالمي حول الإفتاء، نتعرف من خلاله على المشكلات في عالم الإفتاء المعاصر، ومحاولة وضع الحلول الناجحة لتلك المشكلات خاصة ما يتعلق منها بمعرفة المخرج الشرعي الصحيح من الاضطراب الواقع في عالم الإفتاء، مستفيدا في ذلك بما قعَّده أهل العلم من قواعد وضوابط زخرت بها كتب الأصول والفقه والفتاوى . ويمكننا أيضا من خلال هذا المؤتمر العالمي أن نكشف عن الأدوار التي يمكن للإفتاء المعاصر الاضطلاع بها في تصويب الواقع والارتقاء به إلى أعلى المستويات الحضارية، وكذلك كشف اللثام عن السلبيات التي عاقت عملية الإفتاء في هذا العصر عن أداء وظائفه الحقيقية وحوَّلته إلى أحد أشكال الأزمة التي يعيشها المسلمون في عصرنا الراهن . ويحتاج مؤتمر عالمي كبير كهذا – يبتغي تحقيق تلك الأهداف الكبرى – إلى الانطلاق من ثِقَلٍ عربي وإسلامي يدعمان آماله ورؤيته وأهدافه، ولا أثقل من مصر تاريخا ومكانا ومكانة وواقعا. إن انطلاق هذا المؤتمر العلمي من أرض الكنانة بأهدافه وما يتمخض عنه من زخم علمي ليرقى إلى درجة الأحداث التاريخية التي يمكنها الفصل بين عصرين، عصر فوضى الفتاوى، وعصر الفهم الدقيق لطبيعة الدور الإفتائي وما يكتنفه من ضوابط يمكنها مع التطبيق أن ترتقي به إلى ما يؤمله كل مسلم مستنير يرتبط بثوابت دينه ويعيش واقعه المتغير بما يحفظ عليه سعادته الدنيوية والأخروية. إن مصر الأزهر، مصر مثوى الصحابة والتابعين، مصر الليث بن سعد والشافعي وابن وهب، مصر المهدي العباسي ومحمد عبده والمراغي .. مصر بكل تاريخها الزاخر لجديرة بأن يبدأ من أرضها الطاهرة عهد جديد للتقعيد والتأصيل والتأطير لعملية الفتوى، حتى تظل كما كانت عبر تاريخها محور البداية في كل خير وعلم ونور يسطع على البشرية كلها. لمزيد من مقالات د شوقى علام