«.. الانسان يندهش لما يراه ويسمعه ويحاول أن يفهم، والذى لا يندهش لما يراه ويسمعه، فهو ليس من هنا وليس هناك.. انه غائب عن الدنيا.. أو الدنيا قد غابت عنه.» يكتب هذه الكلمات أنيس منصور وهو يتذكر ما عاشه وما أدهشه فى الكتاب الفريد والممتع «فى صالون العقاد كانت لنا أيام» مضيفا: لم تنته هذه الدهشة فى صالون العقاد..فنحن كل يوم نعطيه عيوننا ليجلوها ، وآذاننا وعقولنا وقلوبنا ، وننظر ماذا يفعل بها». وأنيس منصور قال أيضا عن العقاد: «كسر رءوسنا ولم يحطمها!» # وبالطبع مشاعر الفرحة ومشاهد البهجة التى عاشها الشعب المصرى مع افتتاح قناة السويس الجديدة أضافت الكثير لمعانى العزة والاعتزاز والانجاز لديه وأيضا لمفاهيم ارادة الانسان فى التصدى والتحدى واجتياز الصعب. وكما أن هذا الحدث التاريخى أعطى بعدا جديدا لذاكرة أغسطس وما تحمله وما تحملته عبر السنوات. ما قيل وما يتردد بأن «لا شىء يحدث فى شهر أغسطس» يبدو غالبا توصيفا غير دقيق لحالنا وحال دنيانا. اذ مهما ارتفعت درجات الحرارة ومهما كان لجوؤنا للأماكن المكيفة أو لمصايف وشواطئ بحثا عن الاسترخاء وتغيير الجو وراحة البال. ومهما بدت عواصم القرار فى العالم «مرفوعة عن الخدمة» فإن «أغسطس» كغيره من شهور العام شهد ويشهد أحداثا كبيرا ومآسى انسانية نقف أمامها لنتأمل حالنا وحال البشرية. فمنذ أيام كانت الذكرى ال70 للقصف الذرى الأمريكى لكل من هيروشيما ونجازاكى فى اليابان. وتذكرنا الكاتبة الأمريكية «آن ابلبوم» أيضا بأن الحرب العالمية الأولى بدأت فى أغسطس. وفى هذا الشهر نفسه (عام 1990) صدام حسين غزا الكويت. كما أن القاعدة كانت تقوم بالتحضير للهجوم على مركز التجارة العالمى فى أغسطس أيضا. وشهر أغسطس بالنسبة لمصر فى نهاية القرن التاسع عشر كان موعدا ل»لقاء العفريت». وقد كتب المؤرخ جمال بدوى واصفا ذلك اللقاء قائلا:«فى اليوم الأول من أغسطس1896، خلت بيوت القاهرة من سكانها.وهرع الناس رجالا ونساء وأطفالا الى الشوارع.واحتشدوا على طول الطريق الممتد من بولاق الى القلعة عبر ميدان العتبة الخضراء، ليشهدوا مخلوقا غريبا يزحف على قضبان ملساء.والأولاد من خلفه يركضون ويتصايحون العفريت ..العفريت!!.. ولم يكن ذلك العفريت، سوى أول عربة ترام تشق شوارع القاهرة، فى أول رحلة تجريبية. وفى العربة كان يجلس ناظر (وزير) الأشغال حسين فخرى باشا ومعه كبار موظفيه.وقد تملكهم الزهو والخيلاء.» وبعد أيام من تلك التجربة المثيرة للأنظار احتفلت الشركة البلجيكية رسميا بتسيير الترام على الخطوط الثمانية التى كانت تتجمع فى ميدان العتبة وتمتد الى أطراف القاهرة هكذا دخل الترام أو الترامواى حياتنا وهناك كتاب بديع كما يصفه جمال بدوى وضعه «محمد سيد كيلاني» عن «ترام القاهرة» وعما أحدثه من تغيير وتبديل فى حياتنا وفى نظرتنا للانتقال ووسائله ولتعاملنا مع العتبة ومع القاهرة برمتها. أغسطس أيضا فى صفحات حياتنا المصرية يعنى صدور العدد الأول من صحيفة الأهرام فى 5 أغسطس 1876 فى الاسكندرية وقد أسسها سليم وبشارة تقلا كما أن الاستاذ الكبير محمد حسنين هيكل أصبح رئيسا لتحرير الأهرام فى بداية شهر أغسطس 1957 .. الأهرام الصحيفة العريقة والعملاقة كما هو معروف بالطبع لقارئه على مدى العقود استطاعت أن تصمد وتتصدى وأن تنير العقول وتصير منبرا للآراء والأفكار وأن تصبح ضرورة أساسية فى حياتنا.. و»أيضا في مماتنا»كما يذكرنى البعض من حولى وذلك ب»صفحة الوفيات» فيها. وفى ذاكرة الصحافة المصرية وخاصة «الأهرام» نجد أيضا مع بداية أغسطس 1957 مولد «الصفحة الأخيرة» فيها. ونتعرف معها على ما تركه الصحفى والكاتب كمال الملاخ من بصمات صحفية وثقافية وفنية شكلها ورسمها على مدى سنوات طويلة. «الصفحة الأخيرة» جعل منها الملاخ «صالونا من ورق». صالونا يوميا يرحب بالقارئ وفضوله وتذوقه وتطلعه للأخبار و«أسرار نجوم الشهرة» وبالطبع لتلك المكتوبة أو المصاغة بشكل شيق وجذاب.هكذا صارت «الصفحة الأخيرة» مثل «الصفحة الأولى» (وربما قبلها) يبدأ منها القارئ قراءة صحيفته المفضلة. والملاخ الكاتب الشهير بمعرفته وتاريخه فى المصريات استطاع أيضا أن يعرفنا بأخبار وأسرار العائلات المصرية القديمة (بحسبها ونسبها) وطاف بنا أيضا مع نجوم الفن والابداع فى مصر وفى العالم. الملاخ كان من مواليد أسيوط 1918 وكانت غرفة مكتبه ورقمه 422 بالدور الرابع بجريدة الأهرام المبنى الرئيسى مزينة بأعمال فنية ونباتات ظل وصور تذكارية وكروت كثيرة الاشكال والألوان. والملاخ كعادته كان يذهب الى مكتبه فى الصباح الباكر ويستقبل الناس هناك ويتصل بهم هاتفيا ويقرأ ويكتب .. و«يطبخ الطبخة اياها اللى بيعشقها قراؤه ويتطلعون للاستمتاع بها فى اليوم التالي». هذه التوليفة الصحفية الشهية والدسمة بالأخبار والمعلومات وتفاصيل الحياة و»نميمتها» و»حكاويها المصرية والدولية الجديدة منها وأيضا القديمة». نعم، «بوفيه يومى مفتوح» تحت عنوان ثابت «من غير عنوان». وبالمناسبة عنوان الخبر الرئيسى فى الصفحة كان يكتبه الملاخ دائما بخط يده.. والملاخ توفى عام 1987. وقد أصدر أكثر من ثلاثين كتابا ومنها «توت عنخ آمون» و»حضارة على ضفاف النيل» و«صالون من ورق» و»النار والبحر» و»بيكاسو المليونير الصعلوك» و»الحكيم بخيلا» و»قاهر الظلام» (عن حياة طه حسين). وقد لعب أدوارا ثقافية وحضارية عديدة منها كشفه التاريخى ل «مراكب الشمس» واقامة مهرجانات سينمائية دولية فى القاهرةوالاسكندرية. # انها الدهشة ومصاحبة الفكر. ولهذا الدنيا حاضرة فى حياتنا. حتى فى أغسطس!!