عندما نتجاسر فنفتش عن منابع التكوين الفكري الطائفي فإننا نجد أنفسنا بالضرورة في بئر الأخطاء والتمييز والتحيزات التي تمتليء بها جمعبة التعليم. ذلك أن الأثر التعليمي ممتد المجال وعميق التأثير فإجمالي عدد التلاميذ والتلميذات الذين يتلقون التعليم في المدارس من مراحل التعليم الأولي وحتي الجامعة قرابة السبعة عشر مليونا. ويمضي الكثيرون منهم مابين18,16 عاما في بئر هذا التعليم هو إذن بئر ممتدة التأثير والأثر. ومن ثم فإن النظر إليه وفحصة فحصا متأنيا ودراسة آثاره المدمرة علي مسألة الوحدة الوطنية هو جزء أساسي من معركتنا لتصحيح المناخ الطائفي الذي يزداد تمترسا في أيامنا هذه. والحقيقة أن الذي لفت نظري إلي ضرورة الكتابة حول هذا الموضوع كتاب أكثر من رائع يحمل عنوان التعليم والمواطنة إعداد د. محمد منير مجاهد وأصدرته جمعية مصريون ضد التمييز والكتاب(416 صفحة من القطع الكبير) هو تجميع لأوراق علمية نوقشت في ندوة خصصت لهذا الموضوع. ونقرأ في مقدمة الكتاب أن بؤس نظامنا التعليمي وتخلفه أمر واضح لكل ذي عينين( ترتيب مصر من حيث جودة التعليم الابتدائي214) وإزدياد تكلفة التعليم علي أولياء الأمور وتفشي الدروس الخصوصية كل ذلك كان مثار نقاشات في عديد من المؤتمرات والندوات لكن أيا منها لم يتناول دور التعليم في إشاعة التعصب الديني وإعادة انتاج ثقافة التمييز الديني وتمزيق أواصر المواطنة التي نصت عليها المادة الأولي من الدستور وتمضي المقدمة قائلة إن التعليم بالإضافة إلي عيوبه التي يشعر بها كل مصري هو أخطر المجالات لزرع ونشر التمييز الديني والتعصب والفرز الطائفي( ص8) وتؤكد المقدمة أننا بحاجة إليتحويل الانسان المصري المعاصر من مجرد فرد الي مواطن ومن ثم فإننا بحاجة الي نسق تربوي وبيئة تعليمية مغايرة ونسق يسعي للتجاوب مع البشر كمشاريع مستقلة لأشياء يتم تنميطها وصهرها وصبها في قوالب جامدة ومن ثم كانت الندوة وكان الكتاب وكانت هذه الكتابة. ونتأمل في الدراسات التي جرت مناقشتها ونقرأ في كلمة د. منير مجاهد تعتمد آليات التطرف الديني في التعليم علي ثلاث ركائز: معلم فقد المناعة الفكرية والحضارية. نسق تعليمي يعتمد علي الحفظ والتسميع والتذكر والتلقين وليس علي إعمال العقل والانفتاح علي الأفكار والقيم المختلفة. مقررات دراسية تزخر بالعديد من مظاهر التمييز بين المسلمين وغير المسلمين, وتحط من شأن القيم الثقافية والقانونية الحديثة0 ص22). أما الدكتور محمد نور فرحات فيقدم شهادته كأستاذ استمر في التدريس بالجامعة لمدي مايقرب من أربعين عاما شاهد فيها التغيرات التي استمرت في تراكمها والتي أدت إلي مانحن فيه من نفي مبدأ المساواة أمام القانون. ويقف بنا د. فرحات أمام ظاهرة خاصة بالتعليم المصري علي وجه التحديد. ففي مصر معاهد تقدم تعليما دينيا( الأزهر) وتعليما مدنيا وتعليما عسكريا( الشرطة والجيش) وهناك تعليم حكومي وتعليم خاص. وهناك تعليم وطني وتعليم أجنبي ويمكن القول هناك كذلك تعليم لأبناء الفقراء وآخر لأبناء والأغنياء. ثم يقول وأخطر مظاهر هذا التعدد المتنافر هو التمييز في التعليم بين أولاد الفقراء الذي يتلقون تعليما غثا وبين تعليم آخر متميز للأغنياء. فهل يمكن أن نتحدث بعد ذلك عن وحدة النسيج الوطني؟ قم يقول انك عندما تتحدث إلي خريج كلية حكومية وخريج كلية أجنبية وخريج معهد ديني تدرك أنك تتعامل مع مواطنين مختلفين تماما في كل شيء ولايجمعهم إلا إلا شيء واحد هو رابطة الدين ويتذكر د. فرحات عندما إلتحقت بجامعة الزقازيق في السبعينات من القرن الماضي. كان عميد كلية التجارة مسيحيا وكذلك عميد الهندسة وعديد من رؤساء الأقسام. أما الآن فقليلون جدا من المسيحيين يرأسون الأقسام أما المواقع القيادية فلا أحد منهم. لكن د. فرحات يرفض وبوضوح توزيع كوتة علي الأقباط فإذا حدث ذلك سيكون نكسة حقيقية لفكرة المواطنة فالمطلوب إنهاء التمييز عبر إعطاء الأولوية للكفاءة وحدها وليس تكريس الطائفية. ويحذرنا الدكتور القس إكرام لمعي من الفهم المتخلف للدين فحينما أنشأ محمد علي باشا أول مدرسة للقابلات إعتبر بعض رجال الأديان أن يوم افتتاح المدرسة هو علامة من علامات الساعة فتركوا بيوتهم خوفا وباتوا ليلتهم في الشارع وقبل ذلك وعندما أحضرت الحملة الفرنسية المطبعة اعتبرها بعض الشيوخ رجسا من عمل الشيطان وإنها من عمل إبليس وأن كل المطلوب هو التفقه في الدين الذي يحتوي بداخله علي كل العلوم وتتمثل في هذه النماذج رؤية لا تزال مقيمة في مسار التعليم فالحقبة القبطية لاتوجد في مناهج تعليم التاريخ وكأنها لم توجد أصلا. أما الدكتور كمال مغيث فيعود بنا إلي دراسة البنية المجتمعية المصرية في العصور الوسطي حيث وجد نظام الطوائف وكان لكل طائفة ثقافتها ومصطلحاتها ونظم تعليمها وقيمها وأخلاقياتها. ومازالت القاهرة تحمل لنا أسماء تمثل هذه الطوائف ووجودها المستقل حارة اليهود حارة الأرمن حارة الشوام والمغربلين والفحامين والنحاسين والسكرية, ولم تكن ثمة ضرورة وطنية أو موضوعية لصهر هذه الطوائف معا( ص5). ومع عملية التطور الرأسمالي تنصهر السوق والتعليم العام وتقوم علاقات إنتاج لاتميز بين الناس علي أساس الدين أو العرق. وكانت المدرسة الحديثة هي المؤسسة الأهم في بناء مواطنة موحدة. وبدلا من التمييز الطائفي السياسي( أحزاب) والطبقي( عمال رأسماليين) وتنشأ ثقافة جديدة وقواسم مشتركة ومواطنة حقيقية.( ص58) لكن تطور الاحداث يوقف ذلك كله وتعود بنا المدارس التي يفترض أن تكون أساس الحداثة والانصهار الحضاري واحترام المواطنة إلي أن تكون أداة للطائفية والتمييز الديني. ويحتاج الأمر إلي كتابة أخري.