الرئيس السيسي يُهنئ قداسة البابا تواضروس بعيد القيامة المجيد    الرعاية الصحية: رفع درجة الاستعداد ب 309 منشأة صحية.. وتوفر مخزون من الأمصال خلال الاحتفالات    توفيق عكاشة: شهادة الدكتوراه الخاصة بي ليست مزورة وهذه أسباب فصلي من مجلس النواب    عاجل: سعر الدولار اليوم السبت 4-5-2024 في البنك المركزي المصري    خطوات استخراج بدل تالف بطاقة التموين 2024    محافظ الجيزة: بدء تلقي طلبات التصالح في مخالفات البناء من الثلاثاء القادم    توريد 50 ألف طن قمح لشون وصوامع التخزين بالقليوبية    «النقل الدولي»: مصر تتوسع في إقامة الموانئ الجافة لخدمة نشاط التصنيع    الاتحاد الأوروبي: ملتزمون بحماية استقلالية المحكمة الجنائية الدولية وتهديدها غير مقبول    أوكرانيا: ارتفاع قتلى الجيش الروسي إلى 473 ألفا و400 جندي منذ بدء العملية العسكرية    السيسي يعزي في وفاة نجل البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني    مفاجأة كبرى.. نجم ريال مدريد يقرر الرحيل عن الفريق    ارتفاع جديد في درجات الحرارة بالأقصر اليوم    «صحة البحر الأحمر» ترفع حالة الاستعداد والطوارئ بمناسبة عيد القيامة وشم النسيم    دهس طفلين أسفل سيارته.. القبض على المتهم في حادث طريق أوتوستراد حلوان    دفاع طفل شبرا الخيمة يتوقع أقصى عقوبة لطفل الكويت معطي التعليمات    «جنايات المنيا» تنظر 32 قضية مخدرات وحيازة سلاح    متحدث التعليم يكشف تفاصيل عدم فصل التيار الكهربائي عن جميع المدارس خلال فترة الامتحانات    ناقد فني: توقيت طرح فيلم السرب مع أعياد المسيحيين مثالي    "الملوحة والبيض الملون والمطبق".. ماذا يأكل أهالي قنا خلال أعياد الربيع؟    مستشار الرئيس للصحة: مصر في الطريق للقضاء على مسببات الإصابة بسرطان الكبد    الكشف وتوفير العلاج بالمجان ل2078 حالة في قافلة طبية بأهناسيا ببني سويف    بعد ما أثير عن "أسترازينيكا".. الصحة: التجلط عرض نادر الحدوث    وزير الرياضة يُشيد بنتائج اتحاد الهجن بكأس العرب    ضياء السيد: أزمة محمد صلاح وحسام حسن ستنتهي.. وأؤيد استمراره مع ليفربول (خاص)    عيد العمال.. مدارس التكنولوجيا التطبيقية طريق الفنيين للعالمية    رئيس الوزراء يتفقد عددًا من المشروعات بمدينة شرم الشيخ.. اليوم    خبير تربوي: الجامعات التكنولوجية نقلة نوعية تساعد على ربط التعليم بسوق العمل    تقديرًا لدوره الوطني خلال حرب أكتوبر.. «الوطنية للإعلام» تنعى الإعلامي الراحل أحمد أبوالسعود    مي سليم تروج لفيلمها الجديد «بنقدر ظروفك» مع أحمد الفيشاوي    "السياحة" في أسبوع.. مد تحفيز برنامج الطيران العارض.. والاستعداد لموسم الحج    ما حكم تهنئة المسيحيين في عيدهم؟ «الإفتاء» تُجيب    القوات المسلحة تهنئ الإخوة المسيحيين بعيد القيامة المجيد    موسم عمرو وردة.. 5 أندية.. 5 دول.. 21 مباراة.. 5 أهداف    «رونالدو» يقود الهجوم.. تشكيل النصر المتوقع أمام الوحدة في الدوري السعودي    تفاصيل مشروعات الطرق والمرافق بتوسعات مدينتي سفنكس والشروق    وزير الري: نعمل على توفير حياة كريمة للمواطنين بالصعيد    كوريا الجنوبية: ارتفاع عدد الهاربين للبلاد من الشمال لأكثر من 34 ألفا    الصحة السعودية تؤكد عدم تسجيل إصابات جديدة بالتسمم الغذائي    مصرع 14 شخصا إثر وقوع فيضان وانهيار أرضي بجزيرة سولاويسي الإندونيسية    إسماعيل يوسف: كهربا أفضل من موديست.. وكولر يحاول استفزازه    برج «الحوت» تتضاعف حظوظه.. بشارات ل 5 أبراج فلكية اليوم السبت 4 مايو 2024    إيرادات فيلم السرب على مدار 3 أيام عرض بالسينما 6 ملايين جنيه ( صور)    حملات لرفع الإشغالات وتكثيف صيانة المزروعات بالشروق    هل بها شبهة ربا؟.. الإفتاء توضح حكم شراء سيارة بالتقسيط من البنك    السكة الحديد: إيقاف القطارات بين محطتي الحمام والعُميد مؤقتًا - 3 صور تكشف التفاصيل    «الإسكان»: دفع العمل بالطرق والمرافق بالأراضي المضافة حديثاً لمدينتي سفنكس والشروق    عاجل| مصر تكثف أعمال الإسقاط الجوي اليومي للمساعدات الإنسانية والإغاثية على غزة    إندونيسيا: 106 زلازل ضربت إقليم "جاوة الغربية" الشهر الماضي    الصحة توجه نصائح هامة لحماية المواطنين من الممارسات الغذائية الضارة    بايدن يتلقى رسالة من 86 نائبا أمريكيا بشأن غزة.. ماذا جاء فيها؟    محمود بسيوني حكما لمباراة الأهلي والجونة في الدوري    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    حفل ختام الانشطة بحضور قيادات التعليم ونقابة المعلمين في بني سويف    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عتبة جديدة:
مستقبل قناة السويس بعد 6 أغسطس
نشر في الأهرام اليومي يوم 06 - 08 - 2015

تلازمت أحداث قناة السويس، خلال قرن ونصف، مع لحظات التحول الكبرى فى تاريخ مصر. فبعد حفرها فى عهد الخديو إسماعيل ودخول البلاد مرحلة الاستدانة، تعرضت مصر على أثرها للاحتلال البريطانى عام 1882. ومع تأميمها فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر والإعلان عن المضى فى بناء السد العالى بعد رفض البنك الدولي، تعرضت مصر للعدوان الثلاثى عام 1956. ومع إعادة افتتاحها فى عهد الرئيس أنور السادات بعد انتصار أكتوبر 1973، تعرضت مصر لأزمات داخلية حادة وواجهت عزلة عربية بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل. ومع شقها لتدشين قناة موازية فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، تواجه مصر معضلة مزدوجة، تتعلق بتجاوز تعقيدات المرحلة الانتقالية وخطر العمليات الإرهابية، بحيث ترتبط القناة بتاريخ مليئ بألم الذكريات.
فالسيرة الذاتية للقناة تلتصق بالسيرة التاريخية للبلاد.. غير أن هذا الألم سوف يتحول إلى "أمل مشروط" واختبار حقيقى بعد اليوم التالى The Day After ل 6 أغسطس الجاري. وقد عبرت عن هذا المعنى – بشكل يغلب عليه التشكيك أكثر من الرجاء- روث مايكلسون فى تقرير لها بعنوان "قناة السويس الجديدة هدية مصر للعالم لكن هل هناك حاجة فعلية لها؟" فى صحيفة الإندبندنت البريطانية، منذ عدة أيام، وهو ما يرتبط بمقياس الكفاءة، التى تعبر عن النسبة بين النواتج والتكاليف، بين المخرجات والمدخلات، بين الغايات والوسائل، ليس فى إدارة شئون القناة وإنما فى نهج إدارة قطاعات مختلفة داخل دولاب عمل الدولة المصرية، لاسيما بعد استعادة الثقة فى القدرة على الإنجاز وتغيير المسار إلى مرحلة وآفاق جديدة، يقودها جيش وطنى وحس شعبى ونظام سياسى يسعى لاستكمال أركانه.
تنشر الأهرام فى الحلقة الأخيرة الكلمة الافتتاحية للأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل والمقدمة التمهيدية للخبير الاقتصادى ورئيس مجلس إدارة الأهرام الأستاذ أحمد السيد النجار من فصول كتاب "قناة السويس: التاريخ والمصير والوعد"، وهو إصدار تذكارى علمى تحليلى وثائقى تقدمه مؤسسة الأهرام لقارئها بمناسبة افتتاح قناة السويس الجديدة، وشارك فى تحرير فصوله الستة د.عماد أبوغازى الأستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ود.إيمان عامر أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، وأ.أحمد السماحى الكاتب الصحفى بالأهرام وأ.سيد إبراهيم غبيش الذى قام بتجميع أكبر عدد من الوثائق الخاصة بالقناة. ويتخذ الأستاذان هيكل والنجار من التاريخ مسلكا للمستقبل، أو بالأحرى الولوج لعتبة جديدة فى اتجاه تحقيق المصالح الوطنية المصرية بعد نجاح الافتتاح اليوم (بمشيئة الله) فى جذب أنظار العالم وتلبية نداء المصريين معا. فالشعب ينتظر ثمار قناة السويس الجديدة، ونأمل ألا يطول الانتظار.

لحظة المصير والوعد
محمد حسنين هيكل
منذ بداية التفكير فيها فى عهد المصريين القدماء وحتى الآن، ارتبطت قناة السويس بإبداع وعبقرية الخيال المصرى وبلحظات المصير فى التاريخ الحديث بصفة خاصة. وبقدر ما كان حفر القناة فى القرن التاسع عشر ثم الاستيلاء عليها من مصر عبر صفقة دزرائيلى عام 1875 علامة وملمحًا للفولكلور الاستعماري، فإن تأميمها عام 1956 كان ذروة الانتفاض الاستقلالى لدولة ناهضة وشعب يتطلع لبناء مستقبله. وكان من الطبيعى لتلك الدولة الفتية أن تبدأ بالسيادة على أرضها ومواردها وعلى المشروعات التى بنتها بأموالها وبدماء أبنائها.
وكان كتابى الأول عن قناة السويس والحروب الضارية التى دارت حولها عبارة عن قراءة تحليلية وتعليقات على دراسة "هيو توماس" أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة ريدنج عن "خبايا السويس" التى نشرتها الصنداى تايمز فى الذكرى العاشرة لتأميم القناة وما تلاه من عدوان ثلاثى بريطانى وفرنسى وإسرائيلى على مصر. وكانت تلك الدراسة قد جلت كثيرًا من أسرار السويس خصوصًا فيما يتعلق بأهداف العدوان الثلاثى وبتفاصيل التواطؤ الذى سبق العدوان ووضعت صورة كاملة أو شبه كاملة عنه.
وأذكر أن أكثر ما أغرانى بإنجاز كتابى الثانى عن الصراعات حول قناة السويس والمعنون "قصة السويس.. آخر المعارك فى عصر العمالقة"، كان إحساسى بأن أحدًا لن يحتفل كما ينبغى بالعيد العشرين لانتصار مصر فى حرب 1956. وقد تستطيع السلطة السياسية ألا تحتفل، لكنها "تاريخيًا" لم تعد تستطيع أن تمحو النصر الكبير من الألواح المحفوظة.
الحرب المحدودة
وأزعم أن انتصار مصر فى مواجهة العدوان الثلاثى عليها من انجلترا وفرنسا وإسرائيل كان أكمل انتصار فى تاريخ العرب الحديث، بل إنه كان "أكمل" انتصار فى تطبيق نظريات الحرب المحدودة منذ ظهرت تلك النظريات فى أعقاب التعادل النووى بين القوتين الأعظم: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى السابق.
جوائز الحرب الثلاث
والحرب المحدودة عمل سياسى شامل يلجأ إلى القوة المسلحة فى مرحلة من مراحله لتحقيق هدف معين وفقًا لتعريف هنرى كيسنجر لها. وببساطة فإن جوائز الحرب الثلاث كانت فى يد مصر بعد انتهاء القتال أيًا كانت نتائجه العسكرية. والجوائز الثلاث هى قناة السويس، وشبه جزيرة سيناء، وقطاع غزة. وبعد انتهاء معركة مصر فى مواجهة الدول الثلاث الغازية كانت الجوائز الثلاث فى يد مصر. إذن، كان انتصارها كاملاً ومتمِّمًا للقرار التاريخى بتأميم قناة السويس واستعادتها من براثن القوى الاستعمارية. ولإدراك قوة فعل التأميم الذى أقدم عليه الرئيس جمال عبد الناصر، يكفى أن نورد كلمة رئيس الوزراء البريطانى آنذاك أنتونى إيدن عندما تلقى خبر تأميم مصر لقناة السويس، حيث قال: "إن المصرى يضع إصبعه على قصبتنا الهوائية"، أو بمعنى آخر أن ذلك القرار كان بمثابة خنق للإمبراطورية الاستعمارية البريطانية.
أما كتابى الثالث "ملفات السويس.. حرب الثلاثين عامًا" فقد جاء فى الذكرى الثلاثين لحرب عام 1956. وكانت فكرتى الأساسية لكتابى الجديد هى "الصراع على الشرق الأوسط وفيه"، لكن المستر "أندريه دويتش" ممثل مجموعة الناشرين التى تملك حقوق نشر كتبى فى العالم اقترح أن يكون كتابى الجديد وقتها عن حرب السويس فى ذكرى مرور ثلاثين عامًا عليها. وبعد تفكير استقر رأيى على إطار يجمع فكرتى مع فكرة ممثل الناشرين، وهى الكتابة عن حرب السويس كذروة من ذرى الصراع على الشرق الأوسط وفيه. وإذا كانت حرب السويس عام 1956 هى أولى هذه الذرى العالية، فإنها لم تكن آخرها فقد لحقتها حرب يونيو 1967، ثم حرب أكتوبر 1973. وهذه الحروب الثلاث هى فى حقيقة أمرها حرب واحدة مستمرة فى الصراع على الشرق الأوسط وفيه.
والآن وإزاء تحديات المنافسة التى واجهتها قناة السويس أقدمت مصر على مشروعها الجديد بحفر قناة جديدة بطول 35 كيلومترًا، وعمقت المجرى الملاحى للقناة القديمة بطول 37 كيلومترًا لتمكن قافلتى الشمال والجنوب من المرور فى القناة بشكل متزامن ودون توقف بما فيها السفن الضخمة الكبيرة الغاطس. وهذا المشروع يأتى فى إطار تعاونى واندماجى فى الاقتصاد العالمي. وتتيح هذه القناة لمصر إمكانية زيادة حصة قناة السويس من التجارة السلعية العالمية وربما مضاعفتها تدريجيًا من مستواها الراهن البالغ عُشر التجارة السلعية العالمية.
قوة دافعة
والأهم أن هذا المشروع يخلق قوة دافعة لكل الأفكار والمخططات التنموية لتوظيف الموقع الاستراتيجى الاستثنائى لقناة السويس ولمصر بأسرها لتحويلها إلى مركز عالمى للاستثمارات فى الصناعات التحويلية والتخزين وتجارة الترانزيت والخدمات المالية والسياحية وكل الخدمات إجمالاً. وسيتوقف تحويل هذه الأفكار والمخططات إلى واقع، على استقطاب أفضل العقول فى مصر لتنفيذها، وعلى كفاءة الإدارة الحكومية لعملية التنمية فى إطار وطنى واندماجى فى آن، فصناعة المصير على الصعيد الاقتصادى مثلما هى على الصعيد السياسى تتم بعقول وسواعد وأموال أبناء الأمة. وكل العوامل الخارجية ما هى إلا عوامل مساعدة أو معوِّقة لما يجرى فى الداخل أصلاً؛ وهو ما ينبغى على صناع القرار أن يضعوه فى اعتبارهم حتى يمكنهم أن يحقِّقوا إنجازًا لمصر يذكره التاريخ لهم.
اختبار الكفاءة
وفى مناسبات سابقة وقد كررتها كثيرًا أننى رجل عليه أن يلتفت إلى الوراء ليرى مستقبله، لكنى أعرف أيضًا أن المستقبل يشغلنى ويلح علي، لأنى مواطن يعرف أن مسيرة الحياة مستمرة، وأنها على الدوام إلى الأمام وأن الشباب بالتحديد هم مناط الأمل والرجاء. وسوف يكون هذا المشروع وسلسلة المشروعات المرتبطة به ومجمل المشروعات التنموية فى مصر اختبارًا حقيقيا للكفاءة والإرادة ولمنطق الانتصار للمستقبل بالاعتماد على الشباب لبناء مستقبل قابل للوعد، وقابل للتحقيق فى وطن حر كريم ديمقراطى ينتصر لقيم العدالة والمساواة والحرية والمعرفة والكفاءة، فذلك أكثر ما تحتاج إليه أمة عاشت ولا تزال تعيش حالة ثورية تحرِّكها طموحات بغير حدود، مع ملاحظة أن السنوات الأخيرة من حياتها كلَّفتها الكثير من مواردها وإمكانياتها، حتى وإن لم تؤثر على إرادتها وتصميمها. كما أن هناك تاريخًا لدى هذا الشعب العظيم يزكِّى ويرجِّح ويطمْئِن المتشوقين بلهفة لبشارة المستقبل، فلقد طالت سنوات التيه، وحان للدليل أن يعطى لأهله إشارة بأن الطريق إلى المستقبل مفتوح حتى وإن كانت التضاريس أمامه صعبة وعصية.

حلم مصر للإنسانية
أحمد السيد النجار
اكتملت القناة الجديدة هائلة ومهيبة ومتجاوزة عرض قناة السويس الأم بنحو 40 مترًا. اكتملت القناة لتنهض كعلامة جبارة على قدرة الشعب المصرى على تحقيق الإنجازات العظمى فى أصعب الظروف وأكثرها تعقيدًا. فهذا الشعب الذى احترف البناء والإبداع وصناعة السلام والتنمية منذ فجر التاريخ، ما زال قادرًا على إدهاش العالم بقدرته المتجددة على البناء والعطاء. وهذه القناة تشكل حلقة مضيئة على درب المشروعات العظمى التى غيرت وجه مصر استمرارًا لقناة السويس الأولى التى تعد جوهرة فريدة على هذا الدرب، حيث حولت مصر لممر لعشر التجارة العالمية بإيرادات كبيرة ومتجددة، بلا تكاليف تقريبًا. كما أنها شكلت المشروع الأهم فى تاريخ مصر الذى أدى إلى نقل كتلة كبيرة من سكان وادى النيل ودلتاه إلى منطقة جديدة حول قناة السويس. وحتى المشروع الأعظم فى تاريخ مصر القديم والحديث، وهو سد مصر العالى لم يكن من الممكن بناؤه إلا عبر تأميم قناة السويس واستخدام إيراداتها فى هذا التمويل.
محرك عملاق
وقد جاء مشروع القناة الجديدة كمحرك عملاق للاقتصاد المصرى منحه دفعة قوية للخروج من مأزق البطء، والركود، وضعف القدرة الاقتحامية منذ سنوات طويلة. فالبنية الأساسية للمشروع والمتمثلة فى حفر القناة الجديدة والأنفاق الستة التى ستربط شرق القناة بغربها وضمنها نفقان للسكك الحديدية خلقت أكثر من 40 ألف فرصة عمل مباشرة، فضلًا عن فرص العمل غير المباشرة المرتبطة بالمشروع. أما المشروعات الصناعية والخدمية التى سيتم تأسيسها فى إطار تنمية المنطقة فسوف تخلق أضعاف هذه الفرص تبعًا لحجم تلك المشروعات واحتياجاتها من العمالة. ومن المؤكد أن الآثار المباشرة لمشروع القناة الجديدة، فضلًا عن الأجواء الإيجابية التى خلقتها فى مصر قد ساهمت بصورة فعالة فى تشجيع الاستثمار وتحسين معدل النمو الذى بلغ 2٫2% عام 2014 وسيبلغ وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولى نحو 4% فى عام 2015.
قاطرة التنمية
لقد استعادت مصر عبر مشروع القناة الجديدة الدور القيادى للدولة فى التنمية، وهو ما تم تغييبه على مدار أربعة عقود، والذى يشكل ضرورة وقدوة وقاطرة للقطاع الخاص حتى فى الوضع الراهن للاقتصاد المصرى الذى يقوم فيه القطاع الخاص الصغير والتعاونى والمتوسط والكبير بالدور الأساسى فى الاستثمار وتحقيق النمو. وصحيح أن المشروعات التنموية فى منطقة القناة معروضة للقطاع الخاص المصرى والعربى والأجنبي، إلا أن ذلك لا يمنع من مشاركة الدولة أيضًا، بالذات فيما يتعلق بمشروعات تصنيع الثروات المعدنية والمحجرية وبعض الخدمات الاستراتيجية.
الدولة القائد
ويعيدنا الدور القائد للدولة فى مشروع القناة الجديدة إلى التقاليد المصرية القديمة التى اصطلح على تسميتها «الفرعونية». ففى الألف السادسة قبل الميلاد أسست مصر أول دولة وحضارة فى التاريخ الإنساني. وكانت تلك هى الوحدة الأولى لمصر. ووقتها كانت الدنيا ظلامًا، وكانت الجماعات البشرية الصغيرة المتناثرة على خريطة العالم ما زالت فى مرحلة الهمجية الأولى ما قبل التاريخ والحضارة. وتفككت مصر بعد ذلك لمدة ألف عام. وذاق الشعب خلال تلك الفترة الأمرين من الصراعات بين المقاطعات. لكن مصر استعادت وحدتها المستمرة من عهد الملك مينا عند نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد أو بتاريخ تقريبى نحو 3200 قبل الميلاد وحتى الآن. وكونت مصر دولة أرست أسس الحضارة والضمير الإنساني، بينما كانت الجماعات البشرية فى كل العالم لا تزال على تناثرها وهمجيتها إلا من بؤر صغيرة فى سومر فى جنوب العراق، وربما فى مواضع أخرى فى أودية الأنهار الكبرى فى شرق آسيا.
ونتيجة الويلات التى عانى منها المصريون فى فترة التفكك، فإنهم رفعوا الدولة الموحدة إلى مصاف إله. وتكرست منذ ذلك الحين حالة من التقديس للدولة. وأصبح بقاء الدولة حتى ولو كانت ظالمة أهون بالنسبة للمصريين من زوالها وتفككها. وفتحت تلك الرؤية الباب فى مصر القديمة والعصور الوسطى والحديثة أمام تكريس النظم الاستبدادية المحلية والأجنبية لآلاف السنين. وكانت مصر خلال العصور القديمة والوسطى وغالبية الحديثة محكومة بنظم للسيطرة الاستبدادية الفردية أو الطبقية والنخبوية المغلقة، شأنها فى ذلك شأن كل دول العالم التى سادتها تلك النظم وإن بصيغ مختلفة من دولة لأخرى. وفى العصر الحديث شهدت مصر نمو وترعرع أفكار الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان والمساواة بين البشر بغض النظر عن الدين والأصل العرقى والنوع منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن. وشكلت تلك الأفكار محركًا رئيسيًا لثورة 25 يناير العظيمة. لكن ذلك لم يقلل من هيبة الدولة وتقدير الشعب لأهميتها العظمى، مع رغبة حقيقية فى إصلاح هياكلها وقيمها وسياساتها التى تعرضت للتشوه العميق على مدار أربعين عامًا خلت.
وفى ظل هذا المنظور للدولة فإن كل الأفكار المتعلقة بتطوير الاقتصاد والبنية الأساسية وتعديل الجغرافيا بمعنى شق الترع وإقامة السدود والبحيرات وحفر القنوات، ظلت كلها تتجه نحو الدولة المنوط بها تنفيذ تلك المشروعات الكبرى.
ومن الملهم حقًا أن المصرى القديم تطلع إلى البحرين اللذين تطل عليهما بلاده، ووجد أن تحقيق الاتصال بينهما بأى وسيلة يحقق لجغرافيا الوطن تطورًا اتصاليًا واستراتيجيًا لافتًا، وللشعب منافع اقتصادية كبرى. ومن هنا بدأت أفكار المشروعات الكبرى لربط البحرين الأبيض والمتوسط قبل آلاف السنين.
لصوصية استعمارية
وحتى عندما بدا أن هناك مشروعًا خاصًا وليس حكوميًا لحفر قناة السويس فى العصر الحديث لم تكن تلك سوى خدعة ولصوصية فردينان ديليسيبس وغفلة الخديوى سعيد، لأن الدولة المصرية هى من وفر قوة العمل بالسخرة تقريبًا، وهى من وفر الجانب الأكبر من الأموال الضرورية لإنجاز المشروع الذى تمت سرقته من مصر من قبل الرأسمالية العالمية قبل أن يؤممه ويعيده لمصر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
وهذا الكتاب الذى تهديه مؤسسة الأهرام وهيئة قناة السويس للشعب المصرى ولشعوب العالم، أنجزته مجموعة علمية وفنية من أرقى ما يتوفر لمصر من خبرات علمية وفنية. والكتاب عبارة عن توثيق علمى لفكرة وتاريخ الربط بين البحرين الأحمر والمتوسط منذ العهد الفرعوني. كما يوثق الكتاب للتاريخ الدراماتيكى لحفر قناة السويس الحالية فى القرن التاسع عشر بأدوات بدائية وبسواعد ملايين المصريين وبتضحياتهم الهائلة التى جاوزت مائة ألف ضحية من أجل حفر القناة. ويقف الكتاب وقفة تحليل وتأمل عند لحظة المصير التاريخية أو الحدث الأعظم فى تاريخ القناة وهو تأميمها واستعادة مصر لها بعد أن تم الاستيلاء عليها بشكل لصوصى وسلبها من مصر فى ظل الاحتلال البريطانى الإجرامى لمصر. ويتناول الكتاب فترة توقف القناة بعد العدوان الصهيونى على مصر عام 1967، ثم إعادة افتتاحها عام 1975 بعد أن مهدت حرب أكتوبر عام 1973 ونتائجها الطريق لذلك الحدث التاريخى.
أهداف المشروع
وينتقل الكتاب لتناول المشروع الذى طرحه الرئيس عبد الفتاح السيسى لحفر القناة الجديدة كحدث تاريخى فارق وعملاق فى تاريخ قناة السويس. وهذا المشروع سوف يمكِّن قناة السويس من مواجهة واستباق تحديات الطرق والمسارات البديلة، ويهدى للعالم تطورًا لافتًا فى أهم معبر للتجارة الدولية يساهم فى توفير الوقت والمال للسفن المارة فى القناة. كما يرفع هذا المشروع العملاق الطاقة الاستيعابية للقناة ويؤهلها لزيادة النسبة التى تمر عبرها من التجارة الدولية. كما أن القناة الجديدة تزيد من جاذبية قناة السويس للرحلات السياحية العابرة للموانئ والتى لم تكن تناسبها فترات الانتظار الطويلة للقوافل العابرة لقناة السويس قبل حفر القناة الجديدة وتمكين قوافل الشمال والجنوب من المرور بدون توقف.
وقد قدمت عملية تمويل حفر القناة الجديدة نموذجًا رائعًا للتمويل الشعبى الممكن تمامًا للمشروعات القومية، حيث تم جمع الأموال الضرورية للمشروع من خلال إصدار شهادات استثمار مدتها خمس سنوات وطرحها للمواطنين الذين غطوا الاكتتاب بالمبلغ المطلوب وتجاوزوه خلال ثمانية أيام فقط. أما مشروع التنمية الشاملة فى منطقة القناة فى إطار التنمية الشاملة لمصر فهو التحدى الكبير الذى تتعامل معه مصر بجسارة وبروح اقتحامية واندماجية فى الاقتصاد العالمى على قاعدة تبادل المنافع بصورة مفيدة وعادلة لمصر وللمستثمرين العرب والأجانب، دونما تجاهل لكل الاعتبارات الاستراتيجية التى كانت سببًا فى تغيير مسار القناة الجديدة.
بوابة المستقبل
وإذا كان عمل تاريخى عملاق قد أُنجز بحفر القناة الجديدة، فإن عملًا هائلًا ودؤوبًا ينتظر الحكومة والمجتمع والقطاع الخاص المحلى والعربى والأجنبى من أجل بناء المشروعات التنموية الصناعية والزراعية والتجارية والسياحية والمالية والخدمية عمومًا فى منطقة قناة السويس للاستفادة من موقعها الاستثنائى الفريد، وتلك هى الملحمة التى ينبغى لمصر كلها أن تشارك فيها لفتح بوابات المستقبل بصورة تليق بقيمة وقامة مصر الحضارية العملاقة.

كتاب : قناة السويس
التاريخ والمصير والوعد
تقديم : الأستاذ محمد حسنين هيكل
المحرر : أحمد السيد النجار
الناشر : مؤسسة الأهرام
تاريخ النشر: أغسطس 2015


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.