22 فنانًا من 11 دولة يلتقون على ضفاف النيل بالأقصر.. فيديو وصور    بقانون يخصخص مستشفيات ويتجاهل الكادر .. مراقبون: الانقلاب يتجه لتصفية القطاع الصحي الحكومي    منزل جمال عبد الناصر، منارة ثقافية بحي باكوس في الإسكندرية    تراجع سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الخميس 23 مايو 2023    هل ترتفع أسعار الشقق بعد بيع قطع أراض لجهات أجنبية، الحكومة تجيب (فيديو)    تفاصيل المجلس الوطنى لتطوير التعليم فى حلقة جديدة من "معلومة ع السريع".. فيديو    تموين سوهاج: ارتفاع توريد القمح إلى الشون والصوامع ل 96 ألف طن    فوز ناصر تركي وحسام الشاعر بعضوية اتحاد الغرف السياحية عن الشركات    الطيران الحربي الإسرائيلي يشن غارات على شرق مدينة رفح الفلسطينية    ضياء رشوان للجزيرة: التلويح بالانسحاب من مفاوضات غزة لا يعني التخلي عن القضية    أستاذ علوم سياسية: تقرير «cnn» محاولة فاشلة لتوريط مصر    مراسم تتويج أتالانتا بلقب الدوري الأوروبي لأول مرة فى تاريخه.. فيديو    إعلام عبري: إسرائيل تدرس إغلاق سفارتها بأيرلندا بسبب اعترافها بدولة فلسطينية    حسين لبيب: الإعلام الأهلاوي قوي وأرفض الانتقام من الزمالك    تأكيدًا لانفراد «المصري اليوم».. الزمالك يبلغ لاعبه بالرحيل    ماذا حدث؟.. شوبير يشن هجومًا حادًا على اتحاد الكرة لهذا السبب    رد قاطع من حسين لبيب على "البند الصادم" بعقد زياد كمال    لبيب: جوميز مستمر مع الزمالك الموسم المقبل وسنفعل بند شراء شحاتة    وزير الرياضة: أتمنى مواجهة الأهلي ل الزمالك في السوبر الإفريقي    تريزيجيه: أنا تحت أمر الأهلي.. وعقدي مع طرابزون مستمر لعامين    أحمد سليمان: تم تمديد عقد جوميز..وسنفعل بند شراء محمد شحاته    هُنا بوابة الفجر لاستخراج نتيجة الشهادة الاعدادية بالاسم 2024 في محافظة القاهرة.. ترم ثاني الصف الثالث الاعدادي    «هؤلاء هم المتهمون الحقيقيون».. والدة السائق المتهم بالتسبب في حادث «معدية أبو غالب» تخرج عن صمتها    الأرصاد تحذر من موجة شديدة الحرارة اليوم الخميس    ناجية من حادث معدية أبو غالب تكشف تفاصيل الواقعة    حظك اليوم وتوقعات برجك 23 مايو 2024.. تحذيرات ل «الثور والجدي»    محلل سياسي فلسطيني: إسرائيل لن تفلح في إضعاف الدور المصري بحملاتها    محمد الغباري ل"الشاهد": اليهود زاحموا العرب في أرضهم    بسبب التجاعيد.. هيفاء وهبي تتصدر التريند بعد صورها في "كان" (صور)    نجوى كرم تتحضر لوقوف تاريخي في رومانيا للمرة الأولى في مسيرتها الفنية    احذر التعرض للحرارة الشديدة ليلا.. تهدد صحة قلبك    «الصحة» تكشف عن 7 خطوات تساعدك في الوقاية من الإمساك.. اتبعها    أستاذ طب نفسي: لو عندك اضطراب في النوم لا تشرب حاجة بني    الولايات المتحدة.. إنفلونزا الطيور تصيب الأبقار وتحذيرات من "عواقب وخيمة" إذا انتقلت للبشر    هيئة الدواء: نراعي البعد الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين عند رفع أسعار الأدوية    ضبط 53 شيكارة دقيق بلدي مدعم بماكينة طحين بدسوق    طالب يشرع في قتل زميله بالسكين بالقليوبية    انتشال 3 جثث جديدة لفتيات ضمن واقعة غرق ميكروباص من أعلى معدية أبو غالب    البطريرك مار إغناطيوس يوسف الثالث يونان يلتقي الكهنة والراهبات من الكنيسة السريانية    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن فى مستهل التعاملات الصباحية الاربعاء 23 مايو 2024    عمرو سليمان: الأسرة كان لها تأثير عميق في تكويني الشخصي    محمد الغباري: العقيدة الإسرائيلية مبنية على إقامة دولة من العريش إلى الفرات    باحث في الشؤون الإسرائيلية: بيان «CNN» ليس جديدًا وهدفهم الضغط على مصر    حظك اليوم| برج العقرب الخميس 23 مايو.. «أجواء إيجابية تحيط بك»    رسميا.. انطلاق فيلم "تاني تانى" فى دور العرض اليوم    حسن شاكوش التريند الرابع على اليوتيوب    بمناسبة الاحتفال بالذكرى 248 لاستقلال أمريكا.. السفيرة «هيرو » تؤكد أن مصر شريك لا غني عنه لتحقيق الاستقرار    "وطنية للبيع".. خبير اقتصادي: الشركة تمتلك 275 محطة وقيمتها ضخمة    إبراهيم عيسى يعلق على صورة زوجة محمد صلاح: "عامل نفق في عقل التيار الإسلامي"    البابا تواضروس يستقبل مسؤول دائرة بالڤاتيكان    رغم فارق السنّ.. «آلاء» والحاجة «تهاني» جمعتهما الصداقة و«الموت غرقًا» (فيديو)    "جوزي بيحب واحدة متجوزة".. رسالة من سيدة ورد حاسم من أمين الفتوى    هل يجوز بيع جلد الأضحية؟.. الإفتاء توضح    الوفد: حريصون على توعية العمال بدور الدولة في الحفاظ على حقوقهم    لينك نتيجة الصف السادس الابتدائي 2024 الترم الثاني    أمين الفتوى يوضح أفضل أعمال العشر الأوائل من ذي الحجة: هذا اليوم صيامه حرام    أدعية الحر.. رددها حتى نهاية الموجة الحارة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 22-5-2024 في المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مباراة كاملة:
التأميم .. استعادة الحقوق وتمويل السد «4-6»
نشر في الأهرام اليومي يوم 04 - 08 - 2015

بعد قيام ثورة يوليو 1952، حدثت مباراة سياسية بين حكومة الثورة المصرية وشركة قناة السويس، وتضمنت هذه المباراة ثلاثة احتمالات مفتوحة: الأول يتعلق بمد امتياز الشركة بعد عام 1968، وهو ما كنت تسعى إليه وتخطط له إدارة الشركة. الاحتمال الثانى يخص تسلم الحكومة المصرية لإدارة قناة السويس عند انتهاء الامتياز، وهو خيار لم يكن أى من الطرفين راغبا فى حدوثه، وإن كان الطرف المصرى يعلنه بشكل صريح ومباشر.
أما الاحتمال الثالث هو اتخاذ الحكومة المصرية قرار التأميم لشركة قناة السويس قبل انتهاء امتيازها فى العام المذكور، وهو ما كانت تخطط له القاهرة سرا، الأمر الذى أطلق عليه د.محمد السيد سليم "الخداع الاستراتيجي" فى مؤلفه البارز "تأميم شركة قناة السويس: دراسة فى عملية اتخاذ القرار".
وكان التصور السائد فى أذهان الدول الغربية القائمة على إدارة القناة أن سير هذه المباراة مع الحكومة المصرية "الوليدة" قائما على تحقق الخيارين الأول والثانى فقط، فى حين أن الحكومة المصرية الحديثة الخبرة بالشئون السياسية والمسائل الفنية المتعلقة بقرار التأميم وتبعاته الاستراتيجية، وضعت فى حساباتها الخيار الثالث، فيما يطلق عليه دارسو نظرية المباريات فى العلاقات الدولية ب "المباراة المنقوصة" التى أدتها الدول الغربية وفى مقدمتها بريطانيا مقارنة ب "المباراة الكاملة" التى انتهجتها الحكومة المصرية، ثم تحولت المباراة إلى أزمة فيما بعد، التى تطورت لاحقا إلى حرب (حرب السويس)، بعد تبنى الدول الغربية خيار التصادم، لاسيما أن تصورها أن الطرف الأقوى هو الذى يحدد قواعد المباراة، ولكن ذلك لم يحدث، بل سارت مصر فى طريق التحرر والتنمية.
هذا ما يركز عليه الأستاذ أحمد السيد النجار الخبير الاقتصادى ورئيس مجلس إدارة الأهرام فى فصله المعنون "التأميم: استعادة الحقوق وتمويل السد" ضمن فصول كتاب "قناة السويس: التاريخ والمصير والوعد"، وهو إصدار تذكارى علمى تحليلى وثائقى تقدمه مؤسسة الأهرام لقارئها بمناسبة افتتاح قناة السويس الجديدة، وكتب التقديم له الأستاذ محمد حسنين هيكل وشارك فى كتابة بقية فصوله د.عماد أبوغازى الأستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، د.إيمان عامر أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، وأ.أحمد السماحى الكاتب الصحفى بالأهرام، وأ.سيد إبراهيم غبيش الذى قام بتجميع أكبر عدد من الوثائق الخاصة بالقناة.
وينطلق الأستاذ أحمد النجار مؤلف الفصل الذى نقوم بعرضه تفصيليا من مقولة أساسية مفادها أن ثمة تأثيرات استراتيجية لقرار تأميم قناة السويس على الداخل المصرى أبرزها استعادة الإيرادات من القناة التى نهبتها القوى الاستعمارية، بما يمكن توظيفها فى تحقيق الأهداف الوطنية.. وفى هذا السياق، كان مشروع السد العالى أحد المشروعات الرئيسية فى اتجاه إنجاز التنمية الاقتصادية وتطوير الإيرادات المائية والحماية من ويلات الجفاف وجموع الفيضان وتوليد الكهرباء وتطوير الصناعة، بما جعله مشروعا شعبيا قوميا لتغيير مصير ومسار مستقبل بلد بأكمله، وهو ما يبرر اختياره كأعظم مشروع بنية أساسية فى العالم فى القرن العشرين.
ملخص الحلقة السابقة
ركزت حلقة "نبض شعب: قناة السويس.. الحلم والتاريخ والمشروع" على قصة حفر قناة السويس، تاريخ مصر السياسى والاقتصادى والاجتماعى منذ طرحت كأفكار ومشروعات حيث كان حلم الوصول إلى الشرق هو الذى دفع بالموجات الاستعمارية خارج القارة الأوروبية، وكان برزخ السويس موقعًا عبقريًا جعل من مصر مطمعًا استعماريًا، وطبقت فيه سياسة السخرة على المصريين فى أثناء حفر القناة، واستمرت هذه الأوضاع حتى قيام ثورة يوليو، ليصدر الرئيس عبدالناصر القرار الخاص بالتأميم (المشروع الحلم)، وهو حدث هائل فى تاريخ قناة السويس والعلاقات الدولية.
عام واحد وتهل الذكرى الستون لتأميم قناة السويس. وكان ذلك حدثًا هائلًا هز العالم فى حينه وأحدث تغييرات استراتيجية كبرى فيه. وسيظل ذلك التأميم واحدًا من الأحداث التى تستمر آثارها متواصلة مع مرور الزمن، سواء لأن حصاده المباشر مستمر طالما وجدت القناة نفسها كمشروع عملاق، أو لأن تداعيات التغييرات الاستراتيجية التى نجمت عنه لا تزال مستمرة.
لقد كان المشهد قبل تسعة وخمسين عامًا كالتالي: دولة نامية خارجة لتوها من نير الاستعمار وذله إلى رحابة الاستقلال، تتمكن من تغيير وجه العالم عبر تقديم نموذج وملحمة للإرادة الوطنية وللتحدى والصمود فى سبيل تحقيق الأهداف الوطنية والتنموية. وقد أطلق تأميم القناة موجات هائلة من حركات وثورات التحرر الوطنى التى اقتدت بهذا النموذج.
صلابة الإرادة
وكانت النتيجة هى تغيير خريطة تراتب القوى الكبرى فى العالم، ووضع السطر الحاسم فى إنهاء الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية.. إنها مصرنا العظيمة التى ألهمت العالم هذا النموذج فى حينه وصارت عنوانًا لصلابة الإرادة وللقدرة على تحقيق اختراق نحو المستقبل رغم أنف كل المستعمرين. وكانت آية تلك الملحمة هى تأميم قناة السويس والتداعيات الرهيبة لهذا التأميم التى بلغت ذروتها فى العدوان الثلاثى على مصر والمعركة الكبرى التى دارت فى عام 1956 عند المدخل الشمالى لقناة السويس وانتهت بهزيمة سياسية ساحقة للدول المعتدية، وانتصار سياسى تاريخى لمصر.
وقبل تلك المعركة كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، قد اختار من بين كل المشروعات المطروحة لتطوير الإيرادات المائية لنهر النيل، مشروع بناء السد العالى عند أسوان لحماية الشعب المصرى من ويلات الجفاف وجموح الفيضان ولتوفير المياه الضرورية لانطلاق التنمية الزراعية والصناعية والخدمية ولتوليد الكهرباء من المحطة الكهرومائية للسد لإنارة كل قرى مصر ولاستخدامها فى تطوير الصناعة.
وتوجهت مصر للغرب وللبنك الدولى للحصول على التمويل الضرورى لبناء السد. وأكد البنك الدولى الجدوى الاقتصادية للمشروع. ورغم ذلك التأكيد تراجع عن التمويل تحت الضغوط الأمريكية. وحاولت الخارجية الأمريكية فرض عدد من الشروط التعجيزية التى تمس كرامة مصر واستقلالها الوليد. وعبرت فى النهاية عن رفضها لتمويل المشروع بطريقة تنم عن الاستهانة الحقيقية بالشعب المصري. وكان الرد المصرى قويًا وعاصفًا من خلال إعلان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عن تأميم قناة السويس للحصول من إيراداتها الكبيرة على التمويل الضرورى لبناء سد مصر العالي.
وسوف نتناول عملية تأميم القناة وعلاقتها بتمويل بناء السد العالى وكلاهما نموذجان للقرارات الاستراتيجية الكبرى التى تغير مستقبل بلد بأكمله، أو للمشروعات القومية الكبرى التى تغير مصير الأمة بأسرها. كما سنتناول العائد الاقتصادى من تأميم قناة السويس لنرى هل يبرر حتى على الصعيد الاقتصادى الصرف، قرار التأميم بكل تداعياته.
أولًا: تأميم القناة وتمويل بناء السد العالي
من بين كل المشروعات المتعلقة بتنمية وتنظيم الموارد المائية لنهر النيل اختارت مصر مشروع السد العالى. وتميز ذلك المشروع بضخامة الوفورات المائية من جهة وبأنه يجعل مصر متحكمة فى مصيرها المائى من خلال مشروع على أرضها وليس فى أراضى بلد آخر.
وقد وقف زعيم مصر الراحل جمال عبد الناصر وراء هذا المشروع بكل قوته. وكان بالفعل الأب الشرعى للمشروع. ونجح فى توظيف جماهيريته الأسطورية لتحويل قناعته بمشروع السد العالى إلى اختيار اجتماعى حقيقى بحيث أصبح السد مشروعًا شعبيًا تعلقت به آمال شعب مصر لمواجهة موجات الجفاف والفيضانات العنيفة والتذبذب الموسمى، والتذبذب من عام لآخر فى ايراد النيل.

تكلفة الإنشاء
ولم تكن الشعبية العارمة التى حظى بها مشروع السد العالى واستعداد الشعب المصرى لتحمل الصعاب من أجل بنائه كافية لتمويل البناء. وذهبت التقديرات إلى أن تكلفته تبلغ نحو 210 ملايين جنيه مصري، وتكلفة إنشاء السد ومحطته الكهرومائية ترتفع إلى 400 مليون جنيه مصرى إذا أضفنا إليها باقى تكاليف المشروع من رى وصرف واستصلاح وإسكان ومرافق وطرق. وكانت تلك التكلفة تعادل 46٫7% من الناتج القومى المصرى فى عام 1953 والذى بلغ 856٫4 مليون جنيه مصري.
وصحيح أن تلك الأموال كانت ستنفق على مدار عشرة أعوام، لكن ذلك كان سيعنى تخصيص نحو 5% من الدخل القومى سنويًا لتمويل المشروع. وحتى ندرك ضخامة الأمر، فإن تخصيص 5% من الدخل القومى المصرى سنويًا لأى مشروع فى الوقت الراهن يعنى تخصيص نحو 120 مليار جنيه سنويًا بالأسعار الثابتة. وإضافة إلى تلك التكاليف هناك الفائدة على تكاليف تمويل السد التى ستقترضها مصر والتعويضات عن الأراضى التى ستغمرها المياه فى مصر والسودان. وتلك التكاليف الهائلة كان من الصعب على مصر تحملها وحدها. وكان ذلك الوضع هو ما دفع الحكومة المصرية إلى البحث عن مصادر خارجية للمساهمة فى تمويل إنشاء سد مصر العالى، وبالذات تمويل استيراد المعدات والآلات اللازمة لتنفيذه.
التوجه للغرب أولًا:
توجهت مصر إلى دول الغرب والبنك الدولى فى البداية، لكنهم بعد مماحكات طويلة رفضوا التمويل وبصورة مهينة لمصر حتى بعد أن قبل الزعيم المصرى الراحل جمال عبد الناصر بالشروط الأمريكية فى اللحظة الأخيرة فى يوليو عام 1956 بما فيها الشرط الذى يحدد مديونية مصر الخارجية ويقيد حريتها فى عقد قروض أخرى أثناء عملية تنفيذ السد العالى.
وكان ذلك الموقف من عبد الناصر ينطوى على بعد نظر لأنه كان يريد إبطال آخر حجة أمريكية قد تبرِّر بها واشنطن والبنك الدولى تخليهما عن المساهمة فى تمويل السد العالى. لكن الولايات المتحدة رفضت تمويل المشروع ونقل وزير الخارجية الأمريكى هذا الرفض إلى السفير المصرى فى الولايات المتحدة فى 19 يوليو 1956 بقوله:
«إن الولايات المتحدة غيَّرت رأيها فى موضوع السد العالى، وأنها تعتذر الآن عن المضى فى أية مفاوضات تتعلق بتمويل المشروع، وأن أسبابها فى ذلك هى أن بلدًا من أفقر بلدان العالم لا يستطيع أن يتحمل تكاليف مشروع من أكبر المشروعات فيه، ثم إن مياه النيل ليست ملكا لمصر وحدها، وإنما هناك آخرون على مجرى النهر لهم آراء أخرى وإنه يود إخطاره بأن هذا القرار اتخذ بعد مشاورات بين الرئيس والكونجرس».
ثم أصدرت الخارجية الأمريكية فى 20 يوليو 1956 بيانًا صحفيًا أكدت فيه هذا الرفض وأعلنته على العالم كله. وقد جاء فى هذا البيان: «إن الولايات المتحدة أصبحت مقتنعة بأن الحكومة المصرية ليس فى استطاعتها أن تقدم النقد المحلى اللازم لتمويل السد، لأن تنفيذ هذا المشروع العملاق سوف يفرض على الشعب المصرى تقشفًا لمدة تتراوح بين 12 و15 سنة. وإن الشعب المصرى لا يستطيع أن يتحمل ذلك، ثم إن الحكومة الأمريكية - لا ترغب فى أن تتحمل مثل هذه المسئولية».
وإزاء هذا الرفض الأمريكى للمشاركة فى تمويل السد العالى بصورة تنطوى على الاستخفاف بمصر وشعبها، لم يتأخر الرد المصرى كثيرًا، إذ ألقى الزعيم المصرى الراحل جمال عبد الناصر خطابه التاريخى فى 26 يوليو 1956 وعرض فيه قصة مشروع السد العالى وتمويله وقال:
«كان قد قُدِّم لنا مشروع السد العالى فى عام 1952، ووضعناه موضع الدراسة وتبين أن المشروع سليم، وأنه ينتهى بعد عشر سنوات، وواجهتنا عقبة التمويل، واتصلنا بالبنك الدولي، وطلبنا منه - ونحن المشتركين فيه - المساهمة فى تمويل المشروع. لكنهم قالوا: إن هناك عقبات: الإنجليز، وإسرائيل، فعندما تنهون خلافاتكم معهما نستطيع أن نمول المشروع …وقالوا: ليس عندكم نظام برلمانى فنطلب منكم عمل استفتاء على المشروع. وفهمنا من هذا الكلام أننا لن ننال مساعدة من البنك.. فقررنا الاعتماد على أنفسنا، وعلى الشركات الصناعية.. واتصلنا بالشركات الألمانية فقالوا: إنهم على استعداد لإعطائنا 5 ملايين جنيه، وقالت الشركات الألمانية والإنجليزية والفرنسية أن كل شركة مستعدة لإعطائنا 5 ملايين جنيه على أساس قرض قصير الأجل.
شروط القرض
وسافر وزير المالية إلى لندن وقابل وزير مالية إنجلترا، فقيل له: إن الشركات الثلاث مستعدة لرفع القرض إلى 45 مليون جنيه ونكمله نحن من العملة المصرية. وعلى هذا الأساس سافر وزير المالية إلى واشنطن فقال الأمريكان أنهم قرروا لمصر 40 مليون دولار.. معونة. ولكنه كان كلامًا على ورق. فقد رجع الإنجليز فى كلامهم وقالوا خذوا القرض من البنك الدولي، ونحن نعطيكم مليون جنيه، والأمريكان يعطوكم 20 مليونًا.. وقال البنك الدولى إنه مستعد لإقراضنا 200 مليون دولار على خمس سنوات ونحن نصرف خلالها 300 مليون دولار». ويضيف الزعيم الراحل فى موضع آخر من خطابه «قال البنك الدولى أن هذا القرض يتوقف على الشروط الآتية:
1 – أن يطمئن البنك إلى أن العملات الأجنبية التى ستنالها مصر من المنح الأمريكية والإنجليزية لا تنقطع.
2 – أن يتفاهم البنك مع الحكومة المصرية ويتفق معها من وقت إلى آخر حول برنامج الاستثمار.
3 – التفاهم حول الحاجة إلى ضبط المصروفات العامة للدولة.
4 – لا تتحمل الحكومة المصرية بأى دين خارجي، ولا توقع أى اتفاقات دفع إلا بعد التفاهم مع البنك الدولى أولًا وقبل الاتفاق على أى مشروع.
وطلب البنك أن تكون إدارة المشروع خاضعة للاتفاق معه. وأخيرًا وبعد هذا كله فاتفاقات البنك خاضعة لإعادة النظر فيها إذا حدث ما يستدعى ذلك».
ويضيف الزعيم الراحل فى خطابه التاريخى «وتكلمنا مع ممثلى أمريكا.. وقلنا لهم: إنه فى فترة 5 سنوات سيصرف على السد 370 مليون دولار تدفع منها مصر 300 مليون وتدفعون 70، والمشروع يتكلف نحو ألف مليون دولار سندفع منها 730 مليونًا أولًا.. فكيف يمكن أن أنفذ الشروط التى يمليها على البنك الدولي؟!.. وقلنا لهم: إن لنا تجربة فى ذلك وسبق أن وقعنا فى هذا الاستغلال، وحضر كرومر وبقى فى مصر. وكان يقصد تجربة تمويل حفر قناة السويس التى أوقعت مصر فى فخ الديون الأجنبية والإشراف الأجنبى على اقتصادها والتى انتهت باحتلال مصر من قبل الاستعمار البريطانى اللصوصي.
الاتحاد السوفيتى يفتح بابًا بديلًا للتمويل:
ويكمل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر حديثه بقوله: «وجاء السفير الروسي، وقال: إن روسيا مستعدة للاشتراك فى تمويل السد العالي، وكان ذلك بعد شهر ديسمبر 1955 فقلت له: إننا نتكلم مع البنك الدولي.. وتأجل الكلام فى التفاصيل. وعرف الأمريكان أن هناك عرضًا روسيًا، فأرسل مدير البنك الدولى كتابًا يطلب فيه دعوته للحضور إلى مصر. ووصل مدير البنك، وبدأت المفاوضات معه فى شهر فبراير 1956 وحينما قابلته قلت له: بصراحة نحن عندنا عقدة من ناحية القروض، والفوائد، لأننا رحنا ضحية الاحتلال بسبب القروض. فلن نقبل أى مال يمس سيادتنا».
ويضيف الزعيم الراحل فى موضع آخر «وكان مفروضًا أن نبدأ المشروع فى يونيو الماضى (1956).. وعلى ذلك أبلغت مدير البنك أننا لن نبدأ المشروع إلا بعد أن نصل إلى اتفاق مع البنك. وقال مدير البنك: إنه يجب أن نحل مشكلة الماء بيننا وبين السودان ثم يوقع البنك الاتفاق معنا.. لكنه لم يضمن أن تدفع أمريكا وإنجلترا أكثر من 70 مليون دولار.
وظهر الفخ: نأخذ 70 مليون دولار ونبدأ فى المشروع ونصرف المال، فنطلب من البنك مبلغ ال 200 مليون دولار فيعرض البنك علينا شروطه. ويبقى علينا أن نقبل شروط البنك أو يتوقف المشروع ويضيع ما أنفقناه هباء. ومعنى هذا أن يرسل البنك من يجلس مكان وزير المالية، وآخر يجلس مكان وزير التجارة، وآخر يجلس مكانى أنا. هذا هو الفخ الذى انكشف.. كانت هناك خدعة لنقع فى براثنهم.. يتحكمون فينا عندما تستنزف أموالنا دون أن نصل إلى أية نتيجة.. فقررنا ألا نبدأ السد إلا بعد أن نعرف كيف يمول السد.. ونعرف كيف ينتهي».
ويضيف الزعيم الراحل فى موضع آخر من خطابه «وفى شهر يونيو تقررت زيارة وزير خارجية روسيا لمصر… وفى نفس الوقت بعث مدير البنك الدولى يطلب المجيء… فقلنا له: تفضل… ودارت محادثات بيننا وبين شبيلوف (وزير الخارجية السوفيتى فى ذلك الحين) الذى عرض مساعدة روسيا لمصر فى جميع الميادين لدرجة إعطاء قروض طويلة الأجل، وقال: إن ذلك سيكون دون قيد أو شرط». ويضيف استكمالًا: «وفى اليوم التالى حضر مدير البنك الدولي، وأكد أن البنك عند وعده الذى ارتبط به فى شهر فبراير وأنه مصمم على تمويل المشروع، وأن الحكومتين البريطانية والأمريكية عند هذا الوعد، وقلت له: ونحن أيضًا عند كلمتنا».
تأميم القناة يحل أزمة التمويل المحلي:
تعرض الزعيم الراحل فى خطابه لسحب الولايات المتحدة لعرضها بعد ذلك ومحاولتها إثارة إثيوبيا وأوغندا وحتى السودان الشقيق ضد المشروع، ومحاولتها التشكيك فى قدرة الشعب المصرى والاقتصاد المصرى على تحمل تكاليف المشروع. ثم طرح الرئيس الحل البديل لتمويل السد العالى قائلًا: «إن دخل قناة السويس بلغ فى عام 1955 - 35 مليون جنيه أى مائة مليون دولار نأخذ منها نحن الذين حفرناها، ومات منا 120 ألفا فى أثناء حفرها، مليون جنيه فقط أى ثلاثة ملايين دولار». وأضاف «لقد كانت قناة السويس دولة داخل الدولة.. شركة مساهمة مصرية ولكنها تعتمد على المؤامرات الأجنبية، وتعتمد على الاستعمار وأعوانه. واليوم حينما نستعيد حقنا أقول باسم الشعب: إننا سنحافظ على حقوقنا، وسنعض عليها بالنواجذ، لأننا نعوِّض ما فات، ولن نبنى صرح العزة، والحرية، والكرامة إلا إذا قضينا على صروح الاستعباد، وقد كانت قناة السويس صرحًا من صروح الاستعباد، والاغتصاب.. والذل.

واليوم أيها المواطنون، أممت قناة السويس… ونشر هذا القرار فى الجريدة الرسمية، وأصبح هذا القرار أمرًا واقعًا» وبخبطة واحدة استعادت مصر قناتها التى سُلِبت منها بالخداع والتحايل والتى كانت السيطرة الأجنبية عليها تمثل نموذجًا حيًا للنهب الاستعمارى لمصر.
وكما هو واضح من نص خطاب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فإنه بدأ باختيار الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، كطرف خارجى يمكن أن يساهم فى تمويل بناء السد العالى. وحاول عبد الناصر جاهدًا أن يكون هذا التمويل جزءًا من علاقة تعاون فعالة مع الغرب شريطة ألا تمس استقلالية مصر. لكن الدول الغربية كانت نظرتها لمصر وللدول النامية عموما، نابعة من عقلية وتصورات استعمارية بالية. ولم تتقبل تلك الدول فكرة المساهمة فى مشروع عملاق يمكنه إحداث تحول استراتيجى هائل فى علاقة المصريين بنهر النيل العظيم وفى قطاع الزراعة، دون أن تكون مصر دولة تابعة سياسيًا واقتصاديًا.
خياران مختلفان
ووجد عبد الناصر نفسه أمام أحد خيارين: إمَّا الخضوع لمشيئة الولايات المتحدة وبريطانيا فى وقت كانت الذكريات المريرة للاحتلال البريطانى والنهب الاستعمارى المنظم والمدمر لمصر ما زالت حية، وإما البحث عن الاعتماد على الذات بصورة رئيسية فى تمويل السد العالى بالإضافة إلى الاستعانة بمصدر خارجى آخر للتمويل بادر بعرض المساعدة غير المشروطة على مصر وهو الاتحاد السوفيتى السابق.
وكانت الصعوبة فى الاختيار الثانى هو أنه يتضمن العمل على تحقيق زيادة كبيرة فى إيرادات مصر عن طريق استعادة حقوقها المسلوبة فى قناة السويس. وكان من المؤكد أن ذلك الأمر سيضع العلاقات المتوترة بين الغرب ومصر منذ استقلالها، على طريق المزيد من التصعيد لهذا التوتر. وكدولة بدأت طريق الاستقلال وكانت فى عنفوانها، اختارت مصر دولة وشعبًا الطريق الثانى. وأممت قناة السويس كما ورد فى خطاب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر المذكور آنفًا.
وفى أعقاب ذلك التأميم حدث العدوان الثلاثى على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وهو العدوان الذى واجه مقاومة بطولية من الشعب والجيش فى مصر. وتمكنت مصر بصمودها وإصرارها الأسطورى على المقاومة رغم الفارق الهائل فى القوة بينها وبين أعدائها، من حشد تأييد عربى وعالمى هائل لها فى تلك المعركة.
وكم كان عميقًا فى دلالاته العروبية، قيام الأشقاء السوريين بقطع خط النفط الذى يمر عبر أراضيهم بأمر مباشر من المقدم عبد الحميد سراج قائد المخابرات العسكرية السورية لتكتمل دائرة انقطاع إمدادات نفط الشرق الأوسط عن انجلترا وفرنسا بعد إغلاق قناة السويس التى كانت المعركة الكبرى تدور عند مدخلها الشمالى فى مدينة بورسعيد الباسلة.
وكم كان المشهد العربى رائعًا.. حين عبرَّت الشعوب العربية الخاضعة للاحتلال أو المقهورة بحكام عملاء وتابعين، عن وقفتها مع مصر بكل أشكال الاحتجاج وبضرب المصالح البريطانية والفرنسية من العراق إلى عدن إلى لبنان إلى المغرب العربى. وكان تقرير السفير البريطانى فى بغداد (مايكل رايت) بليغًا فى التعبير عن عظمة الوقفة العربية إلى جانب مصر، إذ ذكر لرئيس وزرائه (أنتونى إيدن): إذا لم يتوقف الهجوم على مصر بسرعة فلن تكون هناك قوة على الأرض قادرة على حماية نظام نورى السعيد فى بغداد لأن مشاعر الشعب العراقى كلها فى حالة نقمة ضد بريطانيا. وأكد أنه «لم ير ظاهرة مثلها من قبل فى تجربته الدبلوماسية».
صرخة الاستقلال
حقا كانت هناك أمة تنهض من طول سباتها، وكانت معركة تأميم قناة السويس لتمويل بناء سد مصر العالى، والإدارة الملهمة لهذه المعركة من قبل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، هى الشرارة التى فجرت بركان هذه الأمة لتهب فى وقفة شجاعة مساندة لمصر ومعبرِّة عما هو مشترك بين كل الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.
ولم يكن المشهد العالمى أقل روعة سواء من التظاهرات العارمة المؤيدة لمصر فى عدد كبير من الدول المستقلة حديثًا أو الخاضعة للاستعمار أو من التظاهرات التى شهدتها دول الغرب وبالذات بريطانيا وفرنسا بصورة أكدت أن خيار الحرب العدوانية الفرنسية - البريطانية - الإسرائيلية ضد مصر، هو خيار الحكومات المعبرِّة عن الرأسمالية المتطرفة فى عدوانيتها فى تلك البلدان وليس خيار شعوبها.
لكن درة ذلك المشهد العالمى، كان الإنذار السوفيتى لكل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل حيث تضمن الإنذار الموجَّه إلى بريطانيا وفرنسا ضرورة وقف العمليات العسكرية ضد مصر فورًا والانسحاب من الأراضى المصرية دون إبطاء، وتضمن تهديدًا صريحًا للدولتين عندما نص على أن «لندن وباريس ليستا بعيدتين عن مدى الصواريخ النووية السوفيتية». أما الإنذار الموجَّه إلى إسرائيل فقد اتهمها بأنها «تعبث على نحو إجرامى غير مسئول بمصير العالم وبمصير شعبها وتبذر بذور الكراهية لدولة إسرائيل فيما بين الشعوب الشرقية وهو أمر لابد أن يترك آثاره على مستقبل إسرائيل ويشكك فى وجود إسرائيل ذاته كدولة».
وانتهى الأمر بانسحاب قوات العدوان الثلاثى، واستعادت مصر كامل سيادتها وملكيتها لقناة السويس. وقد أتاح ذلك لمصر قدرة اقتصادية إضافية شكلت عاملًا أساسيًا فى تمويل بناء السد العالى. وبدأت مصر فى اتخاذ خطوات جدية بدراسة العرض السوفيتى للمشاركة فى تمويل بناء السد. وبعد مفاوضات قصيرة، وقعت مصر فى 27 ديسمبر عام 1958، اتفاقية القرض السوفيتى لتمويل المرحلة الأولى من إنشاء السد العالى التى تشمل البدء فى إنشائه والارتفاع ببنائه إلى الدرجة التى تكفل تحويل مياهه إلى مجرى جديد يتم إنشاءه لهذا الغرض مع زيادة التخزين المتاح سنويًا.
وقضت الاتفاقية بأن يقدم الاتحاد السوفيتى لمصر قرضًا قيمته 400 مليون روبل أى نحو 34.8 مليون جنيه مصرى يستخدم فى استيراد الآلات والمعدات والمهمات التى لا تتوافر فى مصر. وكذلك لتغطية نفقات الاخصائيين والفنيين السوفيت الذين يستعان بهم فى تنفيذ أعمال هذه المرحلة من السد العالى وفقًا لما يتفق عليه الطرفان. ويسدد القرض على 12 قسطًا سنويًا اعتبارًا من عام 1964 بفائدة قدرها 2.5% سنويًا.
مرحلة جديدة
ومع توقيع تلك الاتفاقية أصبح مشروع السد العالى على أعتاب مرحلة جديدة هى تحويله من حلم تاريخى لأمة عظيمة إلى واقع يجسد التحول الاستراتيجى الأكبر فى علاقة الشعب المصرى بنهر النيل الذى استعصى على الترويض الحقيقى حتى ذلك الحين. وكان تأميم قناة السويس واستعادة مصر لعائدها المالى المنهوب عاملًا رئيسيًا فى تمويل بناء سد مصر العالى الذى تم اختياره عام 1999 كأعظم مشروع بنية أساسية فى العالم فى القرن العشرين.
ورغم التوترات التى اعترت العلاقة السياسية بين مصر والاتحاد السوفيتى السابق عام 1959 بسبب الهجمة البوليسية الشاملة للسلطات المصرية ضد الشيوعيين فى مصر، إلا أن تلك التوترات لم تؤثر على مسيرة الاتفاق بشأن المشاركة السوفيتية فى تمويل وتصميم وتنفيذ السد العالى. وكان ذلك بمثابة اختبار لمدى استقلالية القرار المصرى تجاه الاتحاد السوفيتى بغض النظر عن أن تلك الإجراءات كانت معادية للحريات. ونجحت إدارة عبد الناصر فى التأكيد على استقلالية قرارها الداخلى والخارجي.
ومع اقتراب البدء فى تنفيذ المرحلة الأولى من السد العالى بعد الاتفاق بين مصر والاتحاد السوفيتى بشأنها، حاولت بعض الدول والشركات الغربية العودة مرة أخرى للمشاركة فى المشروع الذى كان واضحًا للجميع أنه سيكون ذا تأثير اقتصادى واجتماعى وسياسى هائل وممتد ومن المهم الارتباط به. وتعززت الآمال الغربية مع إجراء التفجير الأول فى موقع قناة التحويل والذى كان إيذانًا ببدء العمل فى المرحلة الأولى من مشروع السد العالى فى 9 يناير عام 1960، دون أن يتم الاتفاق بين مصر والاتحاد السوفيتى السابق بشأن تمويل وتنفيذ المرحلة الثانية.
لكن الزعيم السوفيتى آنذاك، نيكيتا خروشوف أنهى تلك التوقعات فى 15 يناير 1960 عندما أرسل خطابًا إلى الزعيم المصرى جمال عبد الناصر يؤكد فيها استعداد الاتحاد السوفيتى للتعاون مع مصر فى إتمام بناء السد العالى.
وفى 27 أغسطس 1960 تم عقد اتفاقية مشاركة الاتحاد السوفيتى فى تمويل إتمام مشروع السد العالى. وقدمت حكومة الاتحاد السوفيتى بمقتضى تلك الاتفاقية 900 مليون روبل (78 مليون جنيه مصرى) وذلك لتغطية تكاليف تصميم المشروع والبحوث والدراسات وتوريد وتركيب البوابات ووحدات التوليد الكهربائية المائية والمعدات اللازمة لمشروعات الرى وإصلاح الأراضى وغيرها.
ونص الاتفاق على أن يتم تسديد القرض على اثنى عشر قسطًا سنويًا متساويًا تبدأ بعد عام من تاريخ إتمام السد العالى فى وضعه النهائى وإتمام محطة القوى الجاهزة لتوليد ما لا يقل عن 1 مليون كيلو وات على ألا يتأخر ذلك عن أول يناير 1970. أى أنه كانت هناك فترة سماح مدتها 10 سنوات. أما الجزء الخاص من القرض الذى يستخدم ابتداء من أول عام 1969 فى إتمام الأجزاء المتبقية من المشروع فيتم سداده بنفس شروط الدفع بعد عام من تاريخ إتمام كافة هذه الأعمال بحيث لا يتأخر ذلك عن أول يناير 1972. وسعر فائدة القرض 2.5% تسرى من تاريخ استخدام كل جزء من القرض على أن تؤدى خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام التالى للعام الذى استحقت فيه.
وبعقد ذلك الاتفاق فى 27 أغسطس 1960 حسمت مصر تمامًا معركة تمويل بناء سدها العالى وبدأت ملحمة أسطورية لبناء أعظم مشروع فى تاريخها القديم والحديث والذى كان لتأميم قناة السويس واستعادة مصر لحقوقها المنهوبة فيها دور هائل فى تمويله. ورغم كل الصعوبات ورغم العدوان الإسرائيلى الغادر على مصر عام 1967، أكملت مصر مشروعها العملاق لينهص سدها العالى جبلًا يعترض مجرى النيل العظيم ويرِّوضه تمامًا لأول مرة فى تاريخ النهر الأطول على الكرة الأرضية.

ثانيًا: حصاد تأميم القناة:
(96 مليار دولار بالأسعار الجارية تعادل 400 مليار دولار حاليًا).
منذ تأميم قناة السويس وحتى الآن (عام 2015)، حصلت مصر منها على إيرادات مباشرة بلغت قيمتها نحو 96 مليار دولار بالأسعار الجارية رغم سنوات الإغلاق التى تعرضت لها القناة فى فترات الحروب وخلال سنوات الاحتلال الصهيونى لشبه جزيرة سيناء. وهذه الإيرادات المتراكمة محسوبة من البيانات الرسمية الواردة فى الأعداد المتعاقبة من تقارير البنك المركزى المصرى وفى النشرة الاقتصادية للبنك الأهلى، مع تحويل القيمة المحسوبة بالجنيه المصرى إلى دولارات وفقًا لسعر الصرف الرسمي. وتلك الإيرادات توازى أكثر من 400 مليار دولار من دولارات العام الحالى إذا أخذنا معدلات التضخم السائدة على مدار الفترة منذ التأميم وحتى الآن فى الحسبان.
إيرادات متراكمة
وهذه الإيرادات مرشحة للتزايد المطرد اتساقًا مع النمو المستمر فى حركة التجارة السلعية الدولية التى تمر من القناة، والتى من المتوقع أن تتزايد بشكل كبير لدى افتتاح مشروع القناة الجديدة لتسمح بالمرور المتزامن لقوافل الشمال والجنوب بدون توقف بما ينهى فترات الانتظار ويرفع الطاقة الاستيعابية للقناة.
أما إذا أخذنا نصيب القناة من العوائد التى حققها بناء السد العالى فإن العائد يتضاعف عدة مرات، لأن السد العالى الذى أُممت القناة من أجل تمويل بنائه، هو المشروع الأعظم والأعلى فى عوائده على مدار تاريخ مصر الضارب فى أعماق الزمن لبداية التاريخ المكتوب وغير المكتوب للعالم. وللعلم فإنه فى أغسطس عام 1999، قامت هيئة تحكيم عالمية ضمت مجموعة من أبرز شركات الإنشاءات والمقاولات، ومنتجى معدات ومواد البناءوالتشييد، ومسئولين حكوميين من القطاع العام، ومسئولين من القطاع الخاص، ومحررى المطبوعات المتخصصة فى البناء والتشييد، بعقد اجتماع على هامش أضخم معرض إنشائى وتجارى وصناعى فى القرن العشرين، فى ويسترن هامبشاير لاختيار أبرز عشر مشروعات إنشائية فى القرن العشرين. وجاء السد العالى فى المقدمة كأعظم مشروع بنية أساسية فى القرن العشرين، وبالتالى فى التاريخ، وجاء فى حيثيات اختياره، أنه أعظم عمل إنشائى وهندسى عالمى أحدث تغييرات إيجابية كبيرة فى حياة شعب بأكمله، فهو يوفر مياه الشرب والرى بصورة منتظمة وآمنة لشعب مصر، ويوفر جانبًا مهمًا من احتياجات مصر من الطاقة، ويختزن كميات هائلة من المياه فى بحيرة ناصر تكفى لمواجهة الاحتياجات المائية المصرية فى حالة انخفاض الإيرادات المائية لنهر النيل عدة سنوات متتالية كما يحدث فى دورات الجفاف السباعية التى تضرب منابع النيل مرة واحدة كل قرن منذ عهد المصريين القدماء وحتى الآن، كما أنه أدى لمضاعفة الإنتاج الزراعى وفتح المجال أمام التوسع فى استصلاح واستزراع الأراضى بصورة غير مسبوقة، كما أنقذ مصر من أخطار الفيضات العالية المدمرة.
أما السودان فقد أصبح بفضل هذا المشروع أكثر قدرة على تنظيم مياه النيل على مدار العام وعلى مواجهة النقص فى الإيرادات المائية فى أى عام، لكنه ما زال معرضًا لأخطار الفيضانات العالية المدمرة حتى الآن. وقد فاز السد العالى بهذه المكانة بعد منافسة كبيرة مع «الإمباير ستيت» التى تعتبر أول ناطحة سحاب والتى كانت بدورها معجزة هندسية وإنشائية حين أنشئت، وكذلك مع سد «بولدر» الأمريكى الذى اكتمل فى بدايات القرن العشرين على نهر ريو جراند الذى ينبع من الولايات المتحدة ويعبر الحدود إلى المكسيك حيث يصب فى الخليج المعروف باسمها، وهو سد ضخم كان يعتبر فتحًا فى عالم السدود الكبيرة فى وقت إنشائه.
وإذا كان السبب الرئيسى لفوز السد العالى بصدارة أعظم مشروعات البنية الأساسية فى القرن العشرين هو أنه غيَّر مصير شعب بأكمله، حسب الجهة التى اختارته، فإنه تقدير دقيق بالفعل، لأن دورات الجفاف السباعية التى يتعرض لها نهر النيل كل قرن تقريبًا، كانت تقضى على نحو ثلثى سكان مصر. وكان عدد سكان مصر قد بلغ عند نقطة الميلاد أكثر من 10 ملايين نسمة حسب أدنى التقديرات. وتهاوى العدد إلى 2.5 مليون نسمة فى بداية عهد محمد على بسبب دورات الجفاف إضافة إلى الأمراض والأوبئة والفقر والظلم الرهيب الذى عانى منه الشعب المصرى من حكامه الأجانب لقرون طويلة. وللعلم فإن المحطة الكهرومائية للسد العالى تولد وحدها كهرباء تعادل الكهرباء المولدة من نحو 2.5 مليون طن من النفط تبلغ قيمتها أكثر من 1,5 مليار دولار سنويًا.
قضايا جدالية
ومنذ تأميمها عام 1956 وحتى الآن، شكلت القناة موضوعًا للجدل حول قضايا عديدة بدءًا من مسألة تأميمها نفسها، مرورًا بالأفكار الخاصة بتطويرها وبرفع تنافسيتها بالمقارنة مع المسارات الملاحية البديلة ورفع جاهزيتها لمواجهة أى مشروع منافس، وتطوير استفادة مصر منها بصورة أوسع نطاقًا من مجرد رسوم المرور، والعملة التى يتم تحصيل الرسوم بها، وصولًا إلى الشطحات الهزلية لمن لا يعرفون معنى الوطن وروافعه ورواسيه، والذين تذهب بهم هذه الشطحات إلى فكرة خصخصة شركة قناة السويس.
والحقيقة أن التطوير المستمر للمجرى الملاحى لتسهيل المرور ولاستيعاب السفن العملاقة ذات الغاطس الأكبر، هو أمر جوهرى لزيادة حركة المرور فى القناة والعائد منها. كما أن تنافسيتها تتزايد تلقائيًا كلما ارتفعت أسعار النفط ومختلف مصادر الوقود، حيث يصبح النقل عبر الطرق الأطول مثل الدوران فى طريق رأس الرجاء الصالح حول القارة الإفريقية، أكثر تكلفة. وهذا الارتفاع فى تنافسية القناة فى هذه الحالة يشجع السفن العملاقة على التوجه لقناة السويس، مما يستوجب تطوير المجرى الملاحى بشكل دائم لاستيعاب الطلب المحتمل على المرور فيها.
كما أن تطوير البنية السياحية والتجارية فى مدن القناة يمكن أن يجعل من هذه المنطقة مقصدًا للسياح من أطقم السفن المارة فى القناة ومن ركابها، خاصة لو تم وضع الاعتبارات البيئية ونظافة المجرى الملاحى للقناة وللبحيرات المرتبطة بها على جدول الأولويات. كما أنه يمكن السعى لدى الشركات السياحية الكبرى لإدراج مدن القناة على رحلات السفن السياحية التى تجوب موانيء البحر المتوسط وبحار العالم عمومًا. أما بالنسبة لفكرة تحصيل الرسوم بالجنيه المصرى فإنها فكرة ساذجة ولا مبرر ولا معنى لها أصلًا، لأن قيمة الرسوم بالعملات الحرة ستدخل إلى مصر سواء إذا تم تحصيل قيمة الرسوم بعملة أجنبية، أو إذا تم بيع عملات حرة بنفس القيمة للحصول على جنيهات مصرية لدفع الرسوم بها. وتبدو هذه الفكرة مجرد تعقيد مزعج يفتقد لأى مبرر مقبول. ومن الطبيعى تمامًا أن يحصل كل بلد يصدر سلعة أو خدمة، على قيمتها بإحدى العملات الحرة. ويمكن التفكير فقط فى تسعير المرور فى القناة بوحدة حقوق السحب الخاصة، أو بسلة من العملات، بدلًا من تسعيرها بالدولار، وذلك حتى لا يتأثر الإيراد سلبيًا من أى اضطراب فى أسعار العملات الحرة الرئيسية.
أما فكرة إنشاء قناة بديلة لقناة السويس فإنها فكرة ابتزازية أكثر من أى شيء آخر، لأن المسار الأول المقترح للقناة من موقع مدينة أم الرشراش المصرية المحتلة التى يوجد فيه حاليًا ميناء إيلات، إلى البحر الميت، ثم من هذا الأخير إلى البحر المتوسط، ينطوى على تعقيدات فنية لا يمكن التغلب عليها إلا بتكلفة باهظة، لأن انتقال السفن سيتطلب أهوسة للإنزال وأخرى لرفع السفن، مما يجعل تكلفة ورسوم مرور السفن غير اقتصادية ولا يمكنها أن تنافس قناة السويس. أما المسار الآخر لحفر قناة من إيلات إلى أشدود على البحر المتوسط، فإن إمكانية تحقيقه أعلى بالمقارنة بالمسار الأول، لكن التكلفة الثابتة الهائلة للمشروع والتى سيتم تحميلها على رسوم المرور تجعل مثل هذه القناة باهظة التكلفة اقتصاديًا وغير قادرة على منافسة قناة السويس.
كما أن إسرائيل لا تحتمل على الصعيد الاستراتيجى بالمعنى الضيق (العسكري) أن تشكل مثل هذه القناة حاجزًا مائيًا يفصل قطاع غزة وجزءًا من صحراء النقب عن باقى فلسطين المحتلة عام 1948. أضف إلى ذلك أن مثل هذا المشروع يعد خطًا أحمر بالنسبة لمصر لأنه يضر بمصالحها الحيوية. وإذا تجاوزت إسرائيل كل الصعوبات وقررت تجاوز هذا الخط الأحمر، فإنه لن يكون أمام مصر سوى استعادة السيطرة الوطنية على مضيق تيران والمضائق المحيطة بجزيرتى تيران وصنافير وفرض رسوم على المرور فيها تساوى الرسوم التى كانت ستفرض على المرور فى قناة السويس.
معادلة مشروطة
وتؤكد تجربة تأميم قناة السويس واستعادة الحقوق المصرية التى نهبتها القوى الاستعمارية فيها أن الحصاد الاقتصادى للتحرر يكون هائلًا وموازيًا للحصاد السياسى والاجتماعى للاستقلال واستعادة الكرامة والسيادة على الأرض والموارد. لكن هذا الحصاد الكبير يمكن أن يكون عظيمًا ويغيِّر مجرى حياة البشر ومستويات معيشتهم، عندما تتم إدارة الاقتصاد وموارده الطبيعية بشكل كفء وعادل. ويعتبر مشروع القناة الجديدة والتى تتيح المرور المتزامن لقوافل الشمال والجنوب وترفع الطاقة الاستيعابية للقناة، أحد أهم المشروعات الكبرى فى مصر فى الوقت الراهن لتعظيم طاقة القناة وقدرتها على المنافسة وعلى خدمة التجارة العالمية لمختلف دول وشعوب العالم، وتحقيق الخير لمصر فى نفس الوقت.

كتاب : قناة السويس
التاريخ والمصير والوعد
تقديم : الأستاذ محمد حسنين هيكل
المحرر : أحمد السيد النجار
الناشر : مؤسسة الأهرام
تاريخ النشر: أغسطس 2015


الحلقة المقبلة
" نخاع المقاومة :
قناة السويس والإبداع
فى الصحافة والفنون والآداب"

لو كانت إيرادات القناة بعد تأميمها قد ساهمت فقط فى بناء سد مصر العالى لاعتبر هذا التأميم وفقًا للمقاييس الاقتصادية، عملًا عالى العائد بدرجة أسطورية، فما هو الوضع وأن عائدها قد حقق منذ تأميمها أضعاف هذا التمويل الذى كان يكفى لتمويل مشروعات هائلة أخرى لو أحسنت الحكومات المتعاقبة استخدامه..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.