«مالي أسمع جعجعة ولا أرى طحنا»، ربما يصف هذا المثل العربي حال الثقافة المصرية في لحظتها الراهنة، هذه اللحظة التي تعج بصراعات وظيفية ابنة المصالح الآنية وليست ابنة الوعي الثقافي الحالم بتنوير للعقل العام، وبسد الفجوة بين الثقافة والجماهير. غضبة شديدة تنتاب بعض المتحولقين حول وزارة الثقافة بإزاء التغييرات الأخيرة التي شهدتها أروقتها من ناحية، واختيارات موازية تحتاج لتدقيق أكبر فيما هو آت من ناحية ثانية، واتهامات متبادلة بين الوزير وبعض موظفيه الكبار السابقين ممن أنهى انتدابهم، وبيانات وبيانات مضادة، واتهامات متبادلة بالأخونة تارة، وبالإساءة إلى سمعة مصر خارجيا تارة أخرى!. إنها انفجارات عبثية إذن تسيء في جوهرها لمعنى الثقافة النبيل، ولفكرة الثقافة ذاتها، خاصة وأن الميليشيات الثقافية التي تحركت من الطرفين المتصارعين لم تتورع عن كيل الاتهامات للآخر، وبعضها صحيح، والآخر كوميدي في الحقيقة. وربما الخطأ الذي ارتكبته المجموعات الموالية للإرث القديم للوزارة أنها لم تكن حصيفة بما يكفي هذه المرة، حين جعلت قضيتها الأساسية دفاعا عن أشخاص لا أفكار، خاصة وأن جملة من التساؤلات الدامغة تحاصر البعض ممن لم يجدد انتدابهم. باختصار عالم مسكون بالعتامة، فالفساد الثقافي والترهل الإداري ومشايعة كل نظام، إلى حد محاولة اللعب مع الإخوان في ذروة صعودهم واسترضائهم عبر نشر رواية ضعيفة فنيا لأحد أهم منظري التطرف والإرهاب في العالم، بمقدمة خارج الزمن تصف شيخ الإرهاب بأنه الشهيد المغتال!!، وتقول عنه إنه قد خط لأتباعه طريقا في النضال!!. وفي ظل وزارة سابقة ذهب وزيرها فيما بعد كأول المهنئين للوزير الذي جاء به الإخوان قبل ثورة الثلاثين من يونيو!!. الثقافة الآن بها عشرات المثالب التي يجب تصحيحها، ومساءلة الوزارة ووزيرها الحالي بإزائها، وهذا كله أهم من خروج موظف من وظيفته المنتدب إليها وعودته للعمل من جديد في الجامعة. فغياب الرؤية الكلية حتى الآن، وعدم وجود مشروع ثقافي وطني، يجدل ما بين السياسي والثقافي، وعدم فض الاشتباك القائم بين الوزارة و جملة من التصورات الماضوية التي تعلقت بتفعيل البروتوكول الموقع مع وزارة الأوقاف، لن تفعل شيئا سوى تشكيل وعي قديم ومتهالك للغاية. ويبدو اختزال الثقافة في محوري : الوزير ومن معه/ الراحلون من الوزارة ومن معهم، تعبيرا عن وعي بائس للغاية، خاصة وأن الصيغة الحاكمة للوزارة نفسها مبنية منذ سنين على تحالف الفساد والرجعية، ولذا خربت الثقافة الرسمية من داخلها، ولم تعد بقادرة على أن تقدم للدولة المصرية عطاء ملموسا في معركتها مع القوى الظلامية من جهة، وأذناب العولمة الأمريكية من جهة ثانية، خاصة وأن معظم القيادات الثقافية ذاتها تفتقر للوعي السياسي ومحصولها من جدل السياسي والثقافي يدعو للرثاء. نريد أن تكون هبة المثقفين الحقيقيين لصالح الثقافة المصرية ذاتها، لا لصالح أشخاص محسوبين على مؤسساتها الرسمية، ومن هنا نبدأ، أما الوزير فعليه أن يدرك أن الثقافة فعل تقدمي بالأساس، طليعي وحر، لا يقبل المساومة على الحريات، ولا يعرف الاستدعاء القسري للماضي، مثلما يحدث مع البروتوكول الموقع مع وزارة الاوقاف والموروث من عهد الوزير السابق، حيث يأخذ الوزير الحالي خطوة جديدة داعيا لندوات ثقافية ومن ثم أدبية ونقدية داخل المساجد، وهي فكرة عبثية بامتياز.على الوزير أن يفكر أكثر، ويقدم مشروعا ثقافيا وطنيا بحق، يعبر عن روح جديدة بنت الآن وهنا، وليست ابنة متون التراث، وصيغ الماضي، والوعي التقليدي، والتصورات الرجعية عن الحياة والعالم، وأن يدرك أن الثقافة المصرية مبنية على حيوية الاختلاف، وأنها بحاجة إلى أفق واضح يقدم تصورا محددا صوب معنى الثقافة ومغزاها وماذا نريد منها، وما الذي يمكن أن تقدمه الثقافة لجماهير شعبنا، وما حدود علاقتها بالسياسي، ودورها في إعادة الاعتبار للقوة الناعمة المصرية، وهي أسئلة مركزية على أي وزير ثقافة أن ينطلق منها، وهذا ما لم يفعله أي وزير جاء في أعقاب الثورة، وهذا التصور بشقيه النظري والإجرائي يحتاج لتطهير حقيقي للوزارة من جيتوهات الفساد الثقافي، والترهل الإداري، وتحكيم معايير الكفاءة والنزاهة لا الطاعة والولاء. من حق الوزير أن يجدد لمن يشاء من موظفيه، أو يلغي انتدابه، لكن لزاما عليه أن يدقق في اختياراته، ولا يصبح التغيير محض ديكور، لاستبدال رجل والإبقاء على تابعيه، تكريسا لمزيد من الشماشرجية، ومن حق المثقفين المشغولين بأمر الوزارة- أن يقبلوا أو يعترضوا، ومن حق الدولة المصرية ونحن معها في هذا الطرح أن ترى الثقافة جزءا من معركتها مع البرابرة القادمين من كهوف الماضي، ومن حق الشعب قبل ذلك كله أن يجد ثقافة حقيقية تعينه على تحرير الوعي الإنساني وتخليصه من أغلال الخرافة والميتافيزيقا والجهل المطبق، وفي الحقيقة أن الوزير يمارس حقه، والمثقفون المعنيون بالأمر يمارسون الحق ذاته، لكن أحدا لم يفكر قط في حق ناسنا في ثقافة جديدة، بنت فضاء مختلف، وخيال لامع وجديد. وعلى الدولة المصرية الآن أن تنظر لملف الثقافة بجدية أشد، لتصبح التغييرات ذاتها ليست محض تغييرات في الوجوه، حيث يرحل موظف ليأتي تابعه بالأداء ذاته، فيفقد التغيير معناه وجوهره، وإنما على الدولة أن تبحث عن تغيير السياسات الثقافية لتلائم المرحلة الجديدة بنت ثورتي يناير ويونيو المجيدتين من جهة، وبنت مفهوم الدولة الوطنية بتراكمها الحضاري من جهة ثانية. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله