قد يصبح من المنهجى أن نسعى صوب تفكيك المفردتين المركزيتين فى العنوان، وأعنى بهما :«الثقافة» بوصفها أداة لتحرير الوعى الإنساني، و«بالتطرف» بوصفه تكبيلا لهذا الوعى ودفعا به للوراء، نحن إذن أمام لفظين نقيضين بامتياز، ومن ثم تبدو الثقافة بوصفها رهانا مفصليا من رهانات المجابهة لحالة الجنوح والتشدد الديني، والمفضية عبر تأسيساتها الماضوية إلى إرهاب تمارسه الجماعات الدينية ضد الدولة وناسها ومؤسساتها. تدور الثقافة المصرية الآن فى حلقة مفرغة، تستعيد فيها الممارسات الكرنفالية لحقب ماضية، تم فيها تفريغ الثقافة من معناها، وصبغها بطابع استهلاكى محض، فلم يعد الولاء للقيمة ولا للخيال الجديد، يعزز ذلك ممارسة سرمدية لتغليب معيار أهل الثقة على أهل الكفاءة، وبما يعنى ضربا لفكرتى النزاهة والجدارة فى آن، فضلا عن جملة من السياسات الثقافية المرتبكة التى تعبر عن وعى قديم من جهة، وعدم تقدير لطبيعة اللحظة ومسئوليتها التاريخية من جهة ثانية. تعانى الثقافة الراهنة عوارا وجمودا شديدين، وهى التى يفترض فيها أن تقاوم هذا المد الرجعى المتطرف، فثمة مشكلتان مركزيتان فى الثقافة المصرية باختصار، الأولى نظرية تتعلق بالمفاهيم، فنحن بحاجة ملحة لتعريف جديد للثقافة ينتقل بها من الخانة النخبوية المحضة إلى التعامل معها بوصفها حالة مجتمعية بالأساس، وبما يعنى تكريسا للتصورات الجديدة جميعها حيال الحياة والعالم، وتدشينا لخيال جديد ووعى مبتكر ابن أوانه، ومستقبله فى آن. أما المشكلة الثانية فتبدو مشكلة إجرائية تتبلور فيمن يقوم على الفعل الثقافى ذاته، بعد ثورتين مجيدتين قدمت فيهما جماهير شعبنا الدماء والشهداء، والثقافة لم تمسها الثورة لا من قريب ولا من بعيد، وبات معظم رجالها أنفار كل العصور والأنظمة!، ومن ثم يتبلور وضع بائس يتمثل فى خطاب ثقافى رسمى عاجز ينهض عليه موظفون ثقافيون وتابعوهم، يتوازى معه مد رجعى يتغول فى ظل أبنية اجتماعية وثقافية خربة. كان خيط الممارسة الثقافية الجادة موصولا بالتنوير الحقيقى لا المزيف، الجاد وليس الوهمي، المشغول بتبصير ناسه بواقعهم، لا تزييف وعيهم، دشنه الآباء الكبار للثقافة المصرية:ب طه حسين، يحيى حقي، نجيب محفوظ، محمد مندور، لويس عوض، شكرى عياد،...»، وغيرهم. ومن ثم أضحت الثقافة جوهرا لا عرضا، خيارا لا ترفا، وبدت الثقافة تعبيرا عن مشاريع الانحياز السياسى والاجتماعى للأمة المصرية فى حقبتى الخمسينيات والستينيات على سبيل المثال، بما حوته من تكريس لقيم التقدم والحداثة فى الثقافة العربية، ومن قبلهما تعبيرا عن تعددية لافتة بوجه ليبرالى فى فترتى العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم. إذن يمكن للثقافة أن تمثل قاطرة تجر مجتمعها إلى الأمام، شريطة أن تعى لحظتها الفارقة، وتدرك ماهية دورها، وتحدد خياراتها الفكرية والجمالية، وهذا بيت القصيد فى ما يعرف ب «الاستراتيجية الثقافية»، وهو المصطلح الغائم فى ذهنية الوزير الحالى ومرءوسيه خاصة وأن العمل الثقافى ليس منشأ فى الفراغ، بل موصول بسياقاته السياسية والاجتماعية، وفى لحظة مفصلية ودقيقة لأمتنا المصرية والعربية، يتآمر فيها كل شيء على كل شيء، ويمتزج الفساد بالرجعية، وينهض على الثقافة الرسمية نفر من أبناء اليمين الرجعي، والذين سعى بعضهم للعمل مع جماعة الإخوان الإرهابية أثناء حكمها الفاشى لمصرنا العزيزة، فظلوا بمثابة حلقة الوصل بين قيم ماضوية قديمة وأخرى انتهازية عتيدة، وبما أفضى إلى هذه المآلات البائسة للثقافة الغائبة عن المجابهة المصيرية للأمة المصرية والعربية فى حربها الضروس مع قوى التخلف والرجعية، والارتداد الزمنى لقرون سحيقة ستهوى بنا - لا محالة- لقاع العالم ودركه السفلي. وعلى سبيل الوجاهة الثقافية والرطان الفارغ يدخل بعض المسئولين الثقافيين المتحذلقين فى معارك جانبية لا طائل من ورائها، ومساجلات عبثية هى فى نهايتها بين جناحين ماضويين بامتياز، وبدلا من أن نرى تفعيلا لمئات القصور والبيوت الثقافية، إبداعا للأدب والموسيقى والفن التشكيلى والسينما والمسرح، أو حركة منهجية للنشر الثقافى فى مصر بما يتواءم مع اللحظة، ويعبر جماليا ورؤيويا عنها، أو ارتحالا ثقافيا وفنيا لنجوعنا البعيدة ومدننا الصغيرة المهمشة، إسهاما فى تحرير الوعى المصرى ودفعه للوقوف على حافة التأمل والتساؤل والإدراك لواقعه، نرى النقيض من ذلك كله، فلا شيء سوى الضجيج الذى بلا طائل، والصخب المسكون بالخيال البليد، وبما يحيلك إلى المثل العربى الشهير: (أسمع جعجعة ولا أرى طحنا)! فالجماعات المتطرفة لا تزال تستقطب قطاعات من الشباب، والفكر التكفيرى يجد أنصارا من الموتورين، والدولة المصرية تخوض وحدها بقوتها الصلبة وتلاحمها مع شعبها معركتها النبيلة ضد قطعان الإرهاب وتنظيماته المسعورة، وما من سبيل سوى استعادة القوى الناعمة المصرية بوصفها شريكا أساسيا فى معركتنا مع التطرف. إن المعارك الوطنية لا يدعى إليها، واللحظات المفصلية لا تحتاج لهاتف أو مؤذن، ومن ثم لا بد من مشروع ثقافى وطنى جامع، مصري/عربى الملامح والهوى، يتم فيه الانحياز بلا مواربة للعقل الجديد، ومجاوزة ذلك العقل الكلاسيكى الجامد، وبما يعد فى جوهره انتصارا لقيم الثورة المصرية ذاتها، بوصفها بدت انحيازا للخيال المقاوم فى مواجهة القمع والجمود والرجعية، أما المهادنة والمساومة على العقل فإنها ستفضى بنا إلى المزيد من التردى الفكري، والوقوع فى فخ انحطاط تاريخى سيكون أبطاله صبية وشماشرجية ومرتزقة، وتيارات ظلامية تعتقد فى قدرتها المطلقة على تمثيل الله والدين والحقيقة، ومن ثم الوطن الذى يتحول لديها لمحض فكرة غائبة تستبدلها بخلافة مزعومة، أو أممية متوهمة، أو دولة متأسلمة تقاتل باسم المقدس فتجرفنا جميعا لهاوية لا قرار لها. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله