نزح الشاب إلى القاهرة بعد أن أضناه البحث عن عمل يليق بالشهادة المتوسطة التى حصل عليها بعد أن باع أهله كل ما يمتلكوه من قراريط زراعية ومواش قليلة وخلخال أمه لكى يستكمل تعليمه. فقد ادرك أهله أن التعليم هو جواز السفر الوحيد الشريف المتبقى لهم لكى يخرجوا من دائرة الفقر وحصار التقاليد الباطشة ويفاجأ الشاب الصعيدى النازح إلى القاهرة بأضوائها المبهرة وشوارعها المزدحمة وأبراجها العالية وتجارها المتعطشين دائما لمزيد من الأرباح ومتاجرها المملوءة ببضائع لم يعهدها فى القرى والنجوع النائية وظل الشاب يبحث عن موطىء قدم أو غرفة وسقف أو عمل يقتات منه، وتتلقفه الأعمال الصغيرة، قهوجي، بائع جائل، سايس فى احد الجراجات، ماسح أحذية، وحارس أمن فى بناية متواضعة فى الدقى أو متجر فى الموسكى وظل يتسكع فى الشوارع والحوارى ينظر بعيون زائغة إلى أفواج الميسورين خارجين من السوبر ماركت محملين بأكياس الفواكه والحلوى واللحوم، وتأبى كرامته أن يتسول منهم لقيمة يسد بها رمقه، وتقوده أقدامه إلى المنتجعات الجديدة أو قلاع الأثرياء فى التجمع الخامس والرحاب ومدينتى ويجلس على أحد الأرصفة، ويتابع إعلانات الميادين عن هذه المدن الساحرة.. ما فائدة الشهادة التى يحملها وأنفق من أجلها سنين عمره وقوت أهله؟.. ويفاجأ ببعض الشباب الهائمين مثله يقتربون منه ويعرضون عليه عرضا مغريا أن يتابع تحركات بعض السادة الكبار القاطنين فى الاحياء الراقية منذ خروجهم من منازلهم ويقوم بابلاغ الممول الذى سوف يوفر له الاقامة والمأكل وبدلة لائقة كحارس أمن، ومبلغا كمصاريف شخصية، وعندما يثبت وجوده سيتولى الممول الانفاق على عائلته بالصعيد بمرتب شهري، ويوافق الشاب على الفور ويبدأ عمله فى أحد الأحياء الراقية التى تمتلئ بالفيلات والقصور والحدائق ويسكنها علية القوم من الوزراء ورجال الأعمال ورؤساء البنوك وكبار التجار ويراقب أمام المواقع المحددة له حركة دخول وخروج السادة ويسجلها فى دفتر صغير ثم يأوى فى نهاية يومه إلى غرفة صغيرة فى أحد الاحياء الشعبية المكتظة بالسكان ولا يعرف أحدا منهم ومطلوب منه عدم الاختلاط بهم أو عقد علاقات معهم، وتتوالى الأيام والشهور ويفاجأ الشاب بمحاصرة الحى الذى كان يراقب سكانه بعد الإعلان عن اغتيال بعض الشخصيات التى كان يراقبها.. إذن لم يكن يعمل «حارس أمن» كما زعموا له وأخبروه بأن له مكافأة كبيرة بسبب دقة التقارير التى كان يواليهم بها، لم يكن أكثر من مرشد لهم لارتكاب جرائمهم الخسيسة.. هل يليق به أن يتحول إلى شريك فى اغتيال أشخاص لم يرتكبوا أى جرم ضده ولم يسببوا أى اذى يمس شخصه أو عائلته؟.. أحس بالذنب وظلت الهواجس تنهش ضميره، وفارق النوم عيونه عدة ليال ثم حسم أمره وقرر العودة إلى قريته. د.عواطف عبدالرحمن