البابا تواضروس مهنأ بذكرى دخول المسيح مصر: تنفرد به الكنيسة الأرثوذكسية    منظمة الصحة العالمية ل«الوطن»: الأطقم الطبية في غزة تستحق التكريم كل يوم    «عالماشي» يتذيل قائمة إيرادات شباك التذاكر ب12 ألف جنيه في 24 ساعة    وزير الكهرباء ينيب رئيس هيئة الطاقة الذرية لحضور المؤتمر العام للهيئة العربية بتونس    «التموين» تصرف الخبز المدعم بالسعر الجديد.. 20 قرشا للرغيف    بدء تلقي طلبات المشاركة بمشروعات إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة    أسعار الذهب في مصر اليوم السبت 1 يونيه 2024    «الإسكان»: تنفيذ 40 ألف وحدة سكنية ب«المنيا الجديدة» خلال 10 سنوات    نائب: الحوار الوطني يجتمع لتقديم مقترحات تدعم موقف الدولة في مواجهة التحديات    هل توافق حماس على خطة بايدن لوقف إطلاق النار في غزة؟    الأردن يؤكد دعمه جهود مصر وقطر للتوصل إلى صفقة تبادل في أقرب وقت ممكن    استشهاد طفل فلسطيني بدير البلح بسبب التجويع والحصار الإسرائيلي على غزة    الجيش الإسرائيلي: مقتل 3 عناصر بارزة في حماس خلال عمليات الأسبوع الماضي    بث مباشر مباراة ريال مدريد وبوروسيا دورتموند بنهائي دوري أبطال أوروبا    «استمتعتوا».. تصريح مثير من ميدو بشأن بكاء رونالدو بعد خسارة نهائي كأس الملك    ميدو: استمتعوا بمشهد بكاء رونالدو    محافظ القليوبية يتفقد أولى أيام امتحانات الشهادة الثانوية الازهرية بمدينه بنها    ابتعدوا عن أشعة الشمس.. «الأرصاد» تحذر من موجة حارة تضرب البلاد    «التعليم» تحدد سن المتقدم للصف الأول الابتدائي    تعذر حضور المتهم بقتل «جانيت» طفلة مدينة نصر من مستشفى العباسية لمحاكمته    خبير: شات "جي بي تي" أصبح المساعد الذكي أكثر من أي تطبيق آخر    الزناتي: احتفالية لشرح مناسك الحج وتسليم التأشيرات لبعثة الصحفيين اليوم    توقعات تنسيق الثانوية العامة 2024 بعد الإعدادية بجميع المحافظات    «الآثار وآفاق التعاون الدولي» ضمن فعاليات المؤتمر العلمي ال12 لجامعة عين شمس    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 1-6-2024    طب القاهرة تستضيف 800 طبيب في مؤتمر أساسيات جراحات الأنف والأذن    مشروبات تساعد على علاج ضربات الشمس    إنبي يخشى مفاجآت كأس مصر أمام النجوم    متحدث "الأونروا": إسرائيل تسعى للقضاء علينا وتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين    اليوم| «التموين» تبدأ صرف مقررات يونيو.. تعرف على الأسعار    اليوم.. بدء التسجيل في رياض الأطفال بالمدارس الرسمية لغات والمتميزة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 1 يونيو 2024    فتوح يكشف حقيقة دور إمام عاشور وكهربا للانتقال إلى الأهلي    مسيرة إسرائيلية تستهدف دراجة نارية في بلدة مجدل سلم جنوب لبنان    رئيسا هيئة الرعاية الصحية وبعثة المنظمة الدولية للهجرة يبحثان سبل التعاون    هل لمس الكعبة يمحي الذنوب وما حكم الالتصاق بها.. الإفتاء تجيب    بث مباشر من قداس عيد دخول العائلة المقدسة مصر بكنيسة العذراء بالمعادى    بكام الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية اليوم السبت 1 يونيو 2024    مفاجأة بشأن عيد الأضحى.. مركز الفلك الدولي يعلن صعوبة رؤية الهلال    شهر بأجر كامل.. تعرف على شروط حصول موظف القطاع الخاص على إجازة لأداء الحج    «إنت وزنك 9 كيلو».. حسام عبد المجيد يكشف سر لقطته الشهيرة مع رونالدو    سيول: كوريا الشمالية تشن هجوم تشويش على نظام تحديد المواقع    تقديم إسعاد يونس للجوائز ورومانسية محمد سامي ومي عمر.. أبرز لقطات حفل إنرجي للدراما    لسنا دعاة حرب ولكن    تطورات الحالة الصحية ل تيام مصطفى قمر بعد إصابته بنزلة شعبية حادة    دعاء التوتر قبل الامتحان.. عالم أزهري ينصح الطلاب بترديد قول النبي يونس    «دبحتلها دبيحة».. عبدالله بالخير يكشف حقيقة زواجه من هيفاء وهبي (فيديو)    لمواليد برج الجوزاء والميزان والدلو.. 5 حقائق عن أصحاب الأبراج الهوائية (التفاصيل)    ماهي ما سنن الطواف وآدابه؟.. الإفتاء تُجيب    «القضية» زاد الرواية الفلسطينية ومدادها| فوز خندقجي ب«البوكر العربية» صفعة على وجه السجان الإسرائيلي    مدرس بمدرسة دولية ويحمل جنسيتين.. تفاصيل مرعبة في قضية «سفاح التجمع» (فيديو)    عاجل.. طبيب الزمالك يكشف موعد سفر أحمد حمدي لألمانيا لإجراء جراحة الرباط الصليبي    "أزهر دمياط" يعلن مشاركة 23 طالبا بمسابقة "الأزهرى الصغير"    طبيب الزمالك: اقتربنا من إنهاء تأشيرة أحمد حمدي للسفر إلى ألمانيا    وزارة المالية: إنتاج 96 مليار رغيف خبز مدعم في 2025/2024    أ مين صندوق «الأطباء»: فائض تاريخي في ميزانية النقابة 2023 (تفاصيل)    أعراض ومضاعفات إصابة الرباط الصليبي الأمامي    "صحة الإسماعيلية" تختتم دورة تدريبية للتعريف بعلم اقتصاديات الدواء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نسيج الارتباك الجميل

وتأتي أيام يوليو بما دار فيها . ولكن هناك دائما أياما أخرى قبل يوليو تكون قد مرت . أضحك لوضوح كثير من تفاصيل معارك الصعود أو الحفاظ على القمة بين عبد الحليم حافظ كمطرب يمثل 23 يوليو ، وبين أم كلثوم كقمة ترفض أن يقترب منها أحد ، أما عبد الوهاب فهو المتفرج معظم الوقت .
كان عبد الحليم واحدا من قلة تعي جيدا كيف تكون الإبتسامة هي قناع تخفى دموعاً متجمدة فى العيون ، فلا يراها أحد. ولم يكن يعلم أن صداقتنا لا تسعده وحده كما يكرر، ولكن أغانيه تقوم بما يفوق علاج أكبر علماء النفس لي ولغيري ، لا لأنه يغني للحب المكسور ، ولكن لأنه يغني أيضا لطاقات الأمل. كانت شرفة منزله المطلة على حديقة الأسماك تضم أصص زرع قادمة من اليابان وبها شجرة ورد بلدي ، وأيام أعياد ثورة يوليو 1965 تقترب وفي يده مجلة صباح الخير يقرأ فيها كلمات أغنية «صورة» ،وكنا نعلم كيف يشتد صراع الجميع من أجل إحتفالات ثورة يوليو، وكانت كلمات إحسان عبد القدوس ككتاب وصحفيين بروز اليوسف «أرجوكم أن تعلموا ما طلبه مني د. عبد القادر حاتم ألا نتحدث عن المشكلات في تحقيقاتنا الصحفية وأخبارنا، لابد أن نزرع التفاؤل .ّ وكان الرد من العم كامل زهيري» كشف العيوب مهمتنا ، وتبعه رد الشاعر صلاح عبد الصبور «إن كان هناك إيجابيات سنذكرها، لكنا لن نمتنع عن ذكر السلبيات» .
وعلى المستوى الشخصي لم أكن أعلم أن هناك معركة أخرى تدور بين عبد الحليم وبين أم كلثوم ، فقد غنت «رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا» في يوليو 1964 أغنيتها التي لحنها محمد عبد الوهاب، بعد أن سبق واقترح عبد الحليم في عشاء يوليو 1963 على مائدة عبد الناصر، إن الآوان قد آن لتغني كوكب الشرق من تلحين محمد عبد الوهاب ، فقال جمال عبد الناصر كلمته «لو الأغاني بتؤدى بقرارات جمهورية كنت أصدرت أمرا للسيدة أم كلثوم وللفنان محمد عبد الوهاب بتنفيذ الحكاية دي» تلقف أنور السادات الكلام وقال «الأمر صدر خلاص ياريس». وارتبكت منذ تلك اللحظة حسابات أم كلثوم وعبد الوهاب ، فهذا الشاب _ عبد الحليم _ الذي كان مجرد عازف أوبوا يقف أثناء بروفات الاثنين في الإذاعة عام 1952 صار ندا لهما . لا ينسى عبد الوهاب أنه طلب من عبد الحليم في الشتاء السابق شتاء 1964أن يحدد موعدا يذهبان فيه للقاء عبد الناصر من أجل تخفيف الضرائب على الفنانين ، فذهب الاثنان ، ورغم أن عبد الوهاب هو نقيب الموسيقيين إلا أنه لم يفتح فمه إلا بكلمة «ربنا يخليك ياريس» أما عبد الحليم فقد تكلم وحدد المطلب وخرج بإزاحة 25 بالمائة من دخل الفنانين ليكون مظهرهم وعائلاتهم في شكل لائق. أما أم كلثوم فلم تتعود أن تسمع كلاما من أي مطرب مهما كان قدره ، كانت تعرف أنها الوحيدة التي يسمع لها عبد الناصر شرائطها أثناء سهره للعمل بحجرته في منزله . وكانت تعلم أن ثروت عكاشة وزير ثقافة عبد الناصر قد نصحه أكثر من مرة بأن يسمع بيتهوفن، خصوصا السيمفونية التاسعة التي تضطرم بالفرح والإرادة، وتغسل الروح من أدران اليوم الركيكة، ويصفو الذهن بعدها للقرارات الكبيرة. لكن عبد الناصر رغم حبه للموسيقى الكلاسيك إلا أنه كان يفضل صوت أم كلثوم .

أما عبد الوهاب فهو يكتفي من عبد الناصر بتناول العشاء كل عام على مائدته يوم 23 يوليو في نادي الضباط بالزمالك . ويجلس مستمعا، لا ينطق بكلمة واحدة. ويترك لعبد الحليم الكلام . وكان الجميع يعلمون أن عبد الحليم يملك شجاعة الكلام أمام الرئيس، فهل سيعلو عبد الحليم ليكون صاحب المكانة التي تسبق أم كلثوم وعبد الوهاب معا؟ لا أحد باستطاعته ذلك من وجهة نظر أم كلثوم ، ولا يجب أن يفلت عبد الحليم إلى تلك المكانة كما يفكر عبد الوهاب ، فإذا كانت أم كلثوم تزور بيت عبد الناصر ، فعبد الوهاب يزور شمس بدران مدير مكتب المشير عامر ، ويعتبره كثيرون أنه يحتل مرتبة الرجل الثالث في ثورة يوليو ، هكذا توهم محمد عبد الوهاب ، فكان يزوره بمنزله ليعزف له على العود أغانيه القديمة ، أما عبد الحليم فهو من يستقبل شمس بدران في منزله ، وهو من سبق واستقبل جمال عبد الناصر منذ عامين حين داهمه نزيف بعد حفلة عيد الثورة ، وما أن عاد عبد الحليم إلى البيت ، حتى دق الباب حرس جمال عبد الناصر ليزور المطرب الشاب في بيته ويقول له «إسترح يومين .. ثم سافر إلى لندن للعلاج» .

وإذا كان عبد الحليم قد امتلك «تدبيس عبد الوهاب في التلحين لأم كلثوم التي يخشاها، وتدبيس ام كلثوم في الغناء لعبد الوهاب الذي تخشى أن يعلو لحنه على صوتها، إذا كان قد فعل ذلك، فما الذي سيمنعه أن يصدر إليها ذات نهار تعليمات .. أي تعليمات، وهي السيدة التي لا سبيل إلى العلو عن مكانتها في دنيا السلطة السياسية ؟ ولذلك ما أن تم نجاح أغنيتها «إنت عمري» حتى قررت أن تعاقب عبد الحليم فأمضت أكثر من ساعة ونصف في وصلتها ليغني عبد الحليم صيف 1964 قرابة الفجر، وتغضب منه لأنه قال قبل أن يغني» مش عارف الست أم كلثوم والفنان عبد الوهاب قررا عقابي بتأجيل ظهوري إلى قرب الفجر . ولكن عبد الناصر لم يغادر الحفل إلا بعد أن إستمع لغناء عبد الحليم ، ليأتي يوليو 1965 وتصر أم كلثوم على ألا يغني عبد الحليم في نادي الضباط ، ويتم إبلاغ عبد الحليم بذلك، ورأيته وهو يحدث شمس بدران تليفونيا قائلا «سأشتري تاكسي وأدهس هذه العجوز» ، ولم أسمع ما قاله شمس بدران في التليفون لعبد الحليم ، لكن عبد الحليم أخذ يسب ويلعن كل من أم كلثوم وعبد الوهاب معا . ولأعلم منه بعد يومين أنه سيغني رغما عن أنف الإثنين أمام عبد الناصر في حفل خاص يقام على مسرح سينما راديو بالإسكندرية .

كنت أستعد للسفر إلى باريس في ذلك الصيف، فقد كان عندي حفل عاطفي آخر، أسافر إليه بتذكرة على شركة إير إنديا هدية من أحمد فؤاد المدني الوحيد بين رجال يوليو والذي رأس بنك مصر ومؤسسة روز اليوسف في نفس الوقت ، فقد طالبني الرجل بان أكتب مسلسلا فنيا عن الفنان السكندري سيف وانلي، وما أن فعلت حتى أعجبه المسلسل، وقرر أن من حقي أن أطلب أي طلب ، فطلبت تذكرة لباريس . وقد كان .

وطبعا كان في استقبالي بمطار أورلي من إرتبكت ذات صباح قديم وارتديت فردتي جورب مختلفتى اللون، كانت الحلوة تدرس بباريس، وكانت لا تحلم بأن أسافر إليها بعد معركة نشبت بيني وبين السفير الموجود وقتها وهو من أعطاني خبرا كاذبا عن قرار وهمي بأن ديجول منع تسلح إسرائيل ، فأرسلت الخبر لينبهني إحسان عبد القدوس إلى ضرورة التدقيق في أخباري، وأرسل لي قصاصة ورق من جريدة الأهرام تحمل أنباء تسلم إسرائيل لشحنة سلاح. فكيف أصدق أن ديجول منع تسليح إسرائيل؟ . كان الخبر المدسوس على شخصي هو أضغاث أحلام السفير الذي رفضت كل من أسبانيا والجزائر قبوله بها كممثل لعبد الناصر ، لكن فرنسا قبلت على أساس علمها بأن شخص السفير في سفارات عبد الناصر ليس هو المهم ، فهناك شخص آخر قد يكون مجهولا لدي الخارجية الفرنسية، لكنه الممثل الحقيقي لعبد الناصر، وقد يرسل عبد الناصر أحدهم لمنصب السفير تخلصا منه ولا يرغب بوجوده داخل مصر. وقد أكد لي شعراوي جمعة والذي كان أيامها محافظا للسويس، بعد أن كان نائبا لمدير المخابرات، أكد لي أن السفير الموجود بباريس هو من أصر عبد الناصر آلا يبيت ليلة واحدة في مصر بعد الثامن والعشرين من يوليو 1952، لأن عبد الناصر انتابه شك في صلته بمخابرات الملك فاروق، فضلا عن أنه لم يفلح في عمله لتسهيل عمليات نقل السلاح من أسبانيا إلى الجزائر أثناء حرب التحرير ؛ فنقله إلى جنوب شرق آسيا كقنصل يعمل في قنصلية لا يدخلها أحد. وبعد أن ازدحم مكتب جمال عبد الناصر بخطابات الرجاء من هذا الشخص، نقله قائما بالأعمال في اليونان ثم بعد ذلك إلى باريس، فقد كان الرجل أثيرا لبعض الوقت عند مكتب عبد الحكيم عامر نائب الرئيس، فقد كان كثير المجاملة لكل من له علاقة بمكتب عبد الحكيم عامر .

أما كيف جاءتني تلك المعلومات، فأعترف أني لم أسع إليها، فقد ربطتني صداقة أثيرة بمحمد شكري حافظ المستشار بالسفارة المصرية بباريس، ولم أكن أعلم أنه الشخص المهم في السفارة إلا بعد حين. فبعد أن قدم لي قائمة بأسئلة يحتاج إلى إجابة عليها من مدير مكتب ديجول لشئون البترول، وبعد أن طلب من طالب البعثة علي السمان أن يكون مترجما لي في هذا اللقاء، قلت لهذا الرجل المبتسم دوما ابتسامة من يقظة هائلة هل المعلومات التي أخذتها كإجابة على أسئلتك يمكن أن أستفيد منها في رسائلي الصحفية إلى روز اليوسف ؟ أجابني «ياريت». وكانت أول مرة يذكر في مطبوعة مصرية أن هناك صراعا خفيا بين شركتي البترول الفرنسية والإنجليزية على بترول ليبيا، حيث لم تكن ثورة القذافي قد قامت في ذلك الوقت. وحين أراد محمد يحيى حافظ أن يقدم لي مكافأة مالية على ذلك قلت له بوضوح حازم وحاسم الفارق بين الصحفي والعميل هو ذلك الموجود في الظرف من نقود.. أنا أتحدث أسبوعيا في راديو فرنسا لشمال أفريقيا بخمسمائة فرانك أسبوعيا، وهي تكفي إقامتي بباريس. ضع نقودك في درج مكتبك كما كانت . فأنا أعمل تحت قيادة إحسان عبد القدوس، الذي يحرم علينا شرب فنجان قهوة بمكتب أي محافظ في بر مصر، فهل يمكن أن أقول له أن رجلا مهما بالسفارة أراد إجابات على أسئلة من مصدر فرنسي وأذن لي أن أستخدم تلك الإجابات في رسائلي لروز اليوسف بالقاهرة ، كيف أقول لإحسان عبد القدوس أني قبلت مكافأة على ذلك؟ الفارق بين المواطن والعميل هو تلك النقود، وأنا من محبي ثورة يوليو.»

كانت تلك الكلمات هي طوق نجاة لي من إتهامات كاذبة شاء السفير أن يلصقها بي، ذكر لي محمد يحيى حافظ مستشار السفارة والرجل الأساسي بها ، ضرورة أن أتصل بشعراوي جمعة _ وكان رئيسه السابق في المخابرات العامة ، وأطلب منه أن يوصلني بمحمد زغلول كامل الذي كان يعمل مديرا للخدمة السرية بالمخابرات العامة ، فهو الشخص الذي بيده تفنيد ما أتهمني به السفير .

ولم يمنعني تهديد السفير من أن أقول له علنا وأمام عدد من موظفي السفارة «لقد ظلمك الرئيس عبد الناصر بتعينيك في باريس . من المؤكد أن بقاءك في القاهرة في أي وظيفة أخرى أمر ممكن ؛ وزدت في إهانته قائلا «منصب مدير استقبال الجنازات في جامع عمر مكرم خال، والجامع بجانب وزارة الخارجية بالقاهرة». إندهش الجميع من جراءة شاب في الرابعة والعشرين، ينطق برأيه الخشن في رجل يجلس على مقعد سفير مصر. ولم أكن شجاعا، بل مجرد متهور لا أقيم حسابا للمناصب. ولا أدري من أين امتلكت طاقة التهور تلك، التي أقول بها للأعور: إنتبه أنت أعور، ليس طلبا للبطولة ، ولكن استهزاء بأي ما يجرح كرامة الإنسان. وطبعا كنت خائفا من دس هذا الرجل إلى الدرجة التي تمنيت أن تشتعل الطائرة التي ركبتها في رحلة العودة إلى القاهرة ، وأن أموت ضمن كل ركابها، فمن لي بطاقة لمواجهة سفير مصري في دولة أوربية أساسية؟

ولكن الطائرة لم تسقط ولم تحترق ، ونزلت من الطائرة إلى البنسيون الذي أسكنه بشارع شريف لأجد «مسيو أدمون زوج صاحبة البنسيون، يقوم بصنع «الكور الأرضية» التي يتم توريدها إلى المدارس . كان يصب كورا من الجبس وبعد أن تجف يلصق عليها شرائح كشرائح البطيخ مطبوعة ببيروت لتبدو كرة أرضية تستخدم في المدارس وكان مسيو أدمون المتزوج من مدام عفيفة الرفيعة والتي تمنحه سيجارة كل ساعتين وكوب شاي كل ساعتين ونصف ، وتعاقبه إن أخطأ في وضع شرائح الخرائط التي تشكل القارات . وصادف دخولي البنسيون خطأ وقع فيه مسيو أدمون ، فقد وضع قارة أمريكا الجنوبية مقلوبة بحيث صارت أمريكا الشمالية مكان أمريكا الجنوبية، وأخذ يقول لي بصوت مهزوم «ستعاقبني وتمنع عني السجائر والشاي لمدة يوم . وأنا أفكر في الانتحار» فناولته علبة سجائر مكتملة، فإبتسم قائلا « المرة القادمة سأضع أستراليا مكان الإتحاد السوفيتي ولن أهتم. لكن أنت لا تشرب الشاي ولذلك لا يوجد عندك شاي في غرفتك، لا يا عم سأضع القارات في مكانها على الكرة الأرضية كيلا تغضب الست عفيفة».

ولم يكن مسيو أدمون يعلم أن رأسي يدور رهبة من تقرير السفير في شخصي. ولكن التليفون الذي دار بين شعراوي جمعة محافظ السويس وزغلول كامل ، وأنا جالس في مكتب شعراوي كمحافظ للسويس .هذه المكالمة عرفت أن زغلول كامل يشغل مكانة مدير الخدمة السرية بالمخابرات العامة، وهو من قام برد التقرير الكاذب الذي كتبه في شخصي ذلك السفير، وعليه الآية القرآنية الكريمة «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» . وأضاف زغلول كامل أن مندوبه في باريس أشاد بشخصي إلى الدرجة الذي ذكر فيها أني أكاد أكون المصري الوحيد الذي لم يذهب إلى محل «كوهين» الذي يمنح الزوار العرب خصما يصل إلى سبعين بالمائة من سعر ما يشترونه . وأني قلت لمن دعاني للشراء من هذا المحل «لن أدخله لأني أشك في أنه يمد إسرائيل بقائمة مشتريات كل مصري منه، فيتعرف على الذوق السائد على قمة المجتمع» . وحين سألني هذا الشخص عن توجسي من «كوهين»، أجبت أنا أعلم أن سفارات فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة وروسيا تستفيد من علم الأنثروبولجيا، أي تفاصيل سلوك الإنسان ، ومن علمني ذلك هو أستاذ أساتذة الأنثروبولوجيا بمصر د. أحمد أبو زيد. ولن أمد خصمي بمعلومة عني لقاء شراء كرافتة «أرجنس» أو «جاك فات» بما يوازي جنيه إسترلينيا بدلا من أن يكون ثمنها خمسة جنيهات ، فضلا عن أني لا أحب شراء ولاعة السجائر ماركة «ديبون» بعدة مئات من الفرانكات ليضاف إسمي إلى قائمة من يشترون تلك الولاعة، فعلبة الكبريت أرخص بكثير .

ولم أكن أعلم ان تلك المعلومات البسيطة ستكون جسر صداقة تجاوزت عمل زغلول كامل كمدير للخدمة السرية، وظلت صداقة طالت لأكثر من أربعين عاما، فبعد أن ترك عمله بالمخابرات، تسلم عملا بمكتب معلومات عبد الناصر . ثم بوزارة التخطيط ، وطوال الوقت كانت الصداقة تربطنا إلى الحد الذي عملنا فيه معا في إعداد معسكر للمقاتلين الشاردين بعد عدوان يونيو 1967، وكان يقول لي غرق بعضهم في شراء كرافتات وولاعات سجائر ودس بعضهم للبعض ، وكانت هذه هي النتيجة .

..................

دارت أيام وحين نزلت إلى باريس عام 1965 لم أكن أعلم أن الصيف سيشهد صراعا بين عبد الحليم وام كلثوم، وسينتصر عبد الحليم ، ولتتأكد أم كلثوم أن القمة في الغناء لابد أو تتسع لعبد الحليم معها ومع عبد الوهاب .

وحين عدت من باريس قمت بزيارة عبد الحليم الذي قال لي : ألا تلاحظ أنك ترتدي فردتي جوارب مختلفتى اللون؟ «ضحكت قائلا: قبل أن ألقاك كان معي موعد مع من يهواها القلب، وعادة ما يغمرني إرتباك العجلة لأسرع إلى لقاها، فأخطئ التدقيق في لون فردتي الجورب .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.