لم تكن حركة الجيش المصرى التى قادها جمال عبدالناصر فى 23 يوليو 1952م، مجرد انقلاب عسكرى يهدف أصحابه إلى إزاحة رأس السلطة، والسيطرة على حكم البلاد، وإنما حملت الحركة فى جوهرها ثورة حقيقية بكل المقاييس، غيرت مسار التاريخ فى المنطقة، وأرست دعائم الدولة المصرية الحديثة، فى سياق حركات التحرر الوطنى التى اجتاحت العالم الثالث للتخلص من الاستعمار الكلاسيكى بكل أشكاله، وترسيخ سيادة الشعوب المنهوبة على مقدراتها. أيقظت ثورة يوليو المنطقة من سباتها الطويل، لتغرس بذور العدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، فى مواجهة الاستعمار، الذى تعاقد ضمنيا مع تيارات سياسية فضلت مصالحها فى الداخل لتكريس سياسات الهيمنة والاستقطاب، فأينعت البذور لتثمر ربيعا عربيا قوميا كاد يكتمل، بعد قرون من التبعية وخريفا طويلا من التيه فى دروب الوهم، ومتاهات التغييب. جاء المشروع القومى ليفكك الحزام الشمالى الذى أرادت الولاياتالمتحدة إحكامه على المنطقة، ويحبط مخططات دالاس، ويجهز على حلف بغداد فينزع رأس الحربة عن المشروع الامبريالى الجديد الذى أراد به أيزنهاور أن يرث الاستعمار القديم، ويملأ فراغا سياسيا ادعت الولاياتالمتحدة وجوده فى المنطقة، ويجبر الحليف السوفيتى على احترام المسافات، وتباين وجهات النظر. انتصرت إرادة الاستقلال وانتزاع الحقوق فى حرب السويس 1956م، وبدأت معركة التنمية والتحديث، بالتوازى مع صراع سياسى بلغ ذروته فى أحداث عام 1958م مع الاستعمار الغربى الذى أدرك خطورة ما يجرى على الساحة العربية، على امتدادها من المحيط إلى الخليج، حيث أحبطت الوحدة مع سوريا مشروعا غربيا كانت تقوده تركيا لاعادة رسم خريطة المنطقة، ثم نجحت الحركة الثورية فى العراق بدعم مصرى كبير فى اسقاط نظام نورى السعيد وسلخ العراق عن الحلف الغربي، وهو ما نتج عنه سقوط حلف بغداد، ومخططات حلف شمال الأطلسى، لاستعادة نفوذ الاستعمار الأنجلو فرنسي. كان عبدالناصر وقتها على متن الباخرة المحروسة فى عرض المتوسط، وقد قررت الاستخبارات الامريكية تصفيته، وبعد ملاحقة مثيرة تمكنت البحرية اليوجوسلافية من حماية المحروسة، ليصل ناصر إلى بلجراد ومنها إلى موسكو، ويحدث الانزال الأمريكى فى لبنان، والبريطانى فى الأردن تمهيدا لتحرك عسكرى يعيد تقسيم مناطق النفوذ الغربى فى حال نجاح خطة التخلص من عبدالناصر الذى أذهل الجميع بظهوره فى قصر الضيافة بدمشق يلقى خطابا حماسيا يعلن فيه انتصار الثورة العراقية، ويرسخ جذور الإرادة العربية التى انتصرت مرة أخرى على مخططات الاستعمار، ويصبح المشروع القومى واقعا ملموسا يحمل أمنيات شعب قرر قائده تحطيم أغلال العبودية، والانطلاق نحو آفاق الحرية اللامحدودة. وبينما الثورة الجزائرية بدعم مصرى هائل تواصل ضرباتها فى مواجهة الاستعمار الفرنسى البائد، وقد تخطى المد الثورى حدود العالم العربي، لينتفض العالم شرقا وغربا فى مواجهات ساخنة، من كوبا إلى فيتنام، ومن الكونغو إلى نيبال، ظهرت حركة عدم الانحياز، ومفهوم الحياد الايجابي، وقد برز دور مصر وثقلها المركزى فى الحركة، التى أصبحت محورا مهما فى معادلات الحرب الباردة المتغيرة. وتواصلت معركة الانتاج، وظهرت المشروعات القومية العملاقة، تزامنا مع إعادة توزيع خريطة القوى الاجتماعية، وتواصلت خطط الاصلاح الزراعي، وإعادة توزيع الثروات، ليتغير البناء التحتى للدولة شكلا وموضوعا، مع مواجهة صارمة وحازمة لجماعات الاسلام السياسى التى تراجعت تحت وطأة الضغط، بينما تنامت قوة مصر الناعمة لتعلن عن زمن جميل من الإبداع فى سائر مجالات الأداب والعلوم والفنون، ليصاحب صوت أم كلثوم إبداعات توفيق الحكيم وطه حسين وإحسان عبدالقدوس، وترافق أنغام السنباطى وعبد الوهاب، كتابات يوسف السباعى والعقاد ونجيب محفوظ، وتتلاقى فتوحات عبدالرحمن بدوى وزكى نجيب محمود الفكرية بتنويعات جمال حمدان المبهرة، وتتناثر هنا وهناك نجيمات إبداعية تتراقص على جيد الوطن لتصنع عُقدا لؤلئيا لا يخفت وميضه أبدا. نعم كان ربيع جمال عبدالناصر حلما كاد يكتمل لولا المؤامرات الدولية التى استغلت ثغرات، وتصيدت أخطاء كان طبيعيا أن تحدث، ولم تكن الضربة القاصمة فى يونيو 1967م معول هدم لمشروع ضخم، وإنما كانت زلزالا صاخبا يدعو صاحب الحلم إلى معاودة تقييم الأمور، وإزاحة قيادات أفسدها طول الوقت وعدم المحاسبة، والثقة المفرطة، فى ظل الانشغال بصراع سياسى دولى منهك، وفى ظل وجود عدو صهيونى متربص، استيقظ ناصر على زلزال مدو، ودفعته إرادة الجماهير إلى معاودة البناء، فالحلم أكبر من كل مدارات اليأس التى أحاطت به، وهو ما تجسد فى هدير الجماهير الغفيرة التى هرولت خلف موكبه فى العاصمة السودانية الخرطوم عقب النكسة مباشرة، كرافد حيوى وامتداد لحركة الجماهير التى رفضت التنحى وخرجت تطالب بالثأر ومحاكمة المتسببين فى الهزيمة، وكان الرئيس السودانى قد أخبر ناصر عقب تنحيه أن الخرطوم قد تحترق لو لم يرجع عن قراره. كان مشروع جمال عبدالناصر حقيقيا، وكانت الخطوات هائلة، فما بين نظام ملكى باتت فيه أهواء الملك العابث تعجل بوضع نهاية حتمية لحكم الأسرة العلوية، ودولة قوية ومؤثرة على الصعيد العالمى عقدين من الزمان شهدا تحولات ثورية حادة فى البناءين الفوقى والتحتى، وتغير موازين القوى الاجتماعية والاقتصادية، وامتداد النفوذ السياسى للدولة المصرية عبر محيطها العربى والافريقي، بشكل غير مسبوق يؤكد بكل المقاييس الموضوعية أن ثورة قد حدثت، وأن تغييرا هائلا قد جري، وأن ربيعا عربيا متفتحا أثمرت بذوره، وكاد يكتمل لو توافرت له ظروفا موضوعية طبيعية. لمزيد من مقالات د. سامح محمد إسماعيل