تعجبت كثيرا عندما قرأت مقالا للأستاذ الكبير علي سالم (المصري اليوم/16يونيو 2015) كان قد نشره قبل ذلك في الشرق الأوسط ،بعنوان»أردوغان والنحس» ،ولكن بعد أن أدخل عليه تعديلات مهمة. أوافقه على التوجه العام للمقال الذي اعتَبَر أن السياسات الخارجية لتركيا غير موفقة، وأنها لم تنته إلى الغاية التي حددها رئيس وزرائها الحالي أحمد داوود أوغلو ،عندما كان وزيرا للخارجية ،بأنها «زيرو مشاكل». وقبل أن أوضح موقفي من مقال علي سالم أذكر أمرين: الأمر الأول هو أن «زيرو مشاكل» هي صياغة حزب العدالة والتنمية لمبدأ من أهم مبادئ كمال أتاتورك وهو «سلام في الداخل سلام في الخارج». وهذا يعني أن مواريث الدولة الوطنية قائمة في تركيا كحقيقة تعلو على المتغيرات الحزبية ،بدليل أن صورة أتاتورك لاتزال معلقة فوق رءوس الجميع ،من أردوغان وحتى أصغر فراش في مصلحة المجاري في تركيا. وبالتالي فعجز النظام القائم عن المحافظة على هذه المواريث مخالفة جسيمة تتعالى اليوم أصوات العقلاء لإصلاحها. الأمر الثاني هو أن ثقتي بحكمة علي سالم ليس منبعها فقط متابعتي (ومعي ملايين المصريين والعرب)لأعماله المسرحية وتعليقاته الصحفية ،لكن هناك حكاية صغيرة جدا وغامضة جدا ،ربما لم ينتبه هو إلى أهميتها ،وقعت بيني وبينه وتتصل بصحفية أمريكية يهودية كانت تعيش وتعمل في مصر في ثمانينيات القرن الماضي ،جعلتني آخذ كل رأي يصدر عن علي سالم بجدية بالغة. ربطت بيني وبين الصحفية الأمركية اليهودية (ل.ل.)صداقة قوية جدا ،نشأت في إطار عضويتي في جمعية المراسلين الأجانب،واستمرت من 1981 وحتى 1983. كنا نقضي الساعات الطويلة نتنقل بين كافيتيريا في النيل هيلتون (حيث كنا نلتقي)وبين أماكن عامة عديدة في القاهرة ،نتحدث في عموميات السياسة وفي تفصيلات الفن والأدب والتاريخ ،حديثا ضاحكا مرحا،لا تشوبه شائبة من مصلحة أو من رغبات شخصية. وقدمت الصحفية ،بعد وساطة من زميل صحفي كان يعمل معي في الكويت ،إلى فنان مصري كبير (أشهر فنان في مصر في الثلاثين عاما الأخيرة) لتجري معه حوارا باعتبارها مراسلة لصحيفتين من كبريات الصحف الأمريكية ،كما قالت لي. ثم طلبت مني الصحفية أن أقدمها إلى علي سالم. وتوقعت أن يرحب علي سالم بهذه الصحفية التي كانت موضع تقدير كثير ممن عرفتهم آنذاك من الصحفيين المصريين والأجانب ،والتي كانت ترتبط ،كما قالت لي ،باثنتين من أكبر الصحف في العالم. لكني فوجئت بعلي سالم يرفض لقاءها وهو ينظر لي بعينين مشحونتين بتحذيرات لم ينطق بها لسانه. ليس غريبا أن يرفض أحد في القاهرة الحديث لصحفية أجنبية ،خاصة عندما تكون هذه الصحفية أمريكية ويهودية لكن الغريب هو ما بدا على الرجل من شك وتوجس.ثم سافرت إلى السعودية ،فجأة ،وعدت لأجد الصحفية قد اختفت من القاهرة. ووجدت علي سالم على مقهى ريش يسألني: هه إزاي حال صاحبتك؟ وذكرها بالاسم ،ولكن لهجته الشامتة كانت تقول: مش قلت لك؟ وقد تبين لي بعد ذلك باثني عشر عاما أن علي سالم كان محقا في تحفظه أولا ،وفي شماتته ثانيا. نعود لموضوعنا. في إضافته لمقاله المنشور في الشرق الأوسط ،عند نشره في المصري اليوم ،اعتبر علي سالم أن إعادة السياسات الإقليمية التركية إلى جادة الصواب ،هو المهمة التاريخية المنوطة برئيس وزرائها الحالي أحمد داوود أوغلو ،الذي ربطته صداقة قوية بشخصيات مصرية ،حتى قبل 2011 ،ولا أظن أن علي سالم كان بين من ارتبطوا به ،وإن كانت هذه الصداقات قد انقسمت إلى قسمين :قسم برىء انخدع بالرجل وبحكومته ،من خارج الإخوان المسلمين ،وقسم تبين أنه غير برىء ،وهم الإخوان ومن شايعوهم. لكن الحقيقة هي أن داود أوغلو هو مهندس المرحلة الأردوغانية من السياسات التركية في الشرق العربي. وقد سبقت ذلك مراحل منها مرحلة تورغوت أوزال الذي قابلته في جناحه في هيلتون الكويت لأجري معه حوارا صحفيا ،عندما كان هو نائبا لرئيس وزراء تركيا،وفوجئت اثناء حديثي معه بأن السفير التركي يقترب مني ليسألني ،هامسا ،أن كنت أريد شايا أوقهوة. ولم تكن المفاجأة أن «سعادة السفير» ،وليس أحد مساعديه الصغار أو حتى جرسون من الفندق،هو الذي يسألني بنفسه عن المشروب الذي أريده ،بل المفاجأة المذهلة أنه اقترب مني وهو يتحرك على ركبتيه!! هذا التعبير عن الاحترام الزائد عن الحد كان ،بالطبع ،موجها لرجل الدولة التركي وليس للصحفي المصري الغلبان الذي كان يحاوره. نظرت ساعتها إلى تورغوت أوزال وأنا أسأل نفسي :هل هذا نائب رئيس وزراء للشئون الاقتصادية أم سلطان عثماني جديد؟ لم أدرك ساعتها أن هذا هو رجل «العثمانية الجديدة» التي كانت تستعد لدور أهبل كلفها به جراحو الشعوب والأوطان في واشنطن. وقد تتابعت القوى التي حاولت تخليق قاعدة قوية للعثمانية الجديدة في تركيا ،وهكذا عرفنا أردوغان وعبد الله غول وداوود أوغلو. واليوم نجد صوتين عاقلين يحذران من مواصلة السير على طريق المغامرات الذي اندفع إليه أوغلو ،واندفعت وراءه قوى إقليمية لها أجندات مختلفة عن أجندته . وأهم هذه الأجندات هي الأجندة السعودية التي لم تعد كما كانت أيام سانت جون فيلبي ،بل تطورت بفعل التجربة السعودية الثرية (ماديا ومعنويا)لتصبح أجندة خليجية ذات أفق عربي واقعي ،والأجندة الهاشمية التي لم تعد كما كانت أيام لورانس العرب ،بل تطورت باتجاه البحث عن ثراء مادي يسند ثراءها السياسي والتاريخي ويغنيها عن الالتجاء المستمر ل«الأشقاء» طلبا للعون. الصوت العاقل الأول هو صوت روسيا فلاديمير بوتين التي أنهت اللعبة الكبرى عبر إمداد خصومها التاريخيين في أوروبا بالغاز. وروسيا تقول للجميع كفى تخريبا. لنتوقف هنا ولنبحث معا عن نهاية لمأساة سوريا. صحيح أن الوزير السوري وليد المعلم اعتبر أن تحقق دعوة بوتين لترتيبات جديدة توقف التخريب أمر يحتاج معجزات قد تكون مستبعدة ،لكن الأمل تجدد عندما سمعنا الصوت العاقل الثاني ،وهو صوت السياسي التركي الكبير عبد الله غول الذي يرى أن سياسة تركيا الخارجية تحتاج تعديلات جوهرية ،خاصة فيما يتصل بعلاقاتها مع مصر. إذن فعبد الله غول هو العاقل الذي يجب أن يخاطبه العالم ،وليس داوود اوغلو. فلماذا اختار علي سالم داوود أوغلو؟ لكي أوضح أهمية رأي علي سالم بالنسبة لي اعود لحكاية الصحفية الأمريكية التي اختفت من القاهرة في 1983. كنت في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى (الورشة التي انتجت الربيع العربي)في 1995 عندما طلبت مني صحفية تجلس إلى يميني أن أوصل ورقة لجيمس زغبي الذي كان جالسا إلى شمالي. قالت لي اسمها فذهلت. إنها تقول ان اسمها هو(ل. ل.). هل هي الصحفية التي عرفتها في القاهرة؟ إنها تبدو مختلفة تماما. لون البشرة داكن نوعا ما ،والقوام نحيل ،وأنا لم أعرف في حياتي (غالبا) سوى البيضاوات الممتلئات من نوع الصحفية(ل.ل.) التي عرفتها في القاهرة ،والتي لا تشبه هذه الجالسة أمامي. قلت لها :ألا تعرفينني؟ قالت :لا. سألتها :ألم تكوني في القاهرة مراسلة لصحيفة كذا وصحيفة كذا؟ ألم تتركي القاهرة في 1983 إلى باريس للعمل في مكتب صحيفة كذا؟ ألم تكوني ساكنة في شقة أمام ضريح سعد؟ ألم تكوني تذهبين لتدريبات اليوغا أسبوعيا؟ قالت :أنت تعرف عني أكثر مما ينبغيyou know too much! ،من أنت؟ ربما لعبت السنين بذاكرتي،ربما تخيلت أمورا لا وجود لها ،لكنها أكدت لي صحة معلوماتي عنها. من هذه ؟ ماذا جرى للمرأة التي كنت أعرفها؟ كان علي سالم محقا في رفضه الحديث معها. ربما كان يعلم شيئا ،ربما حذره حسه الفني منها ،ربما هي طبيعة الدمياطي الناصح التي تشم روائح تشير الشكوك فتبتعد. سأبحث عن علي سالم بعد العيد ،لا لأسأله عن صحفية لم أحدثه عنها في المرات التي قابلته فيها ،في الثلاثين عاما الماضية ،ولكن لأناقشه في رؤيته حول التعايش بين شعوب المنطقة ،ولماذا اختار المغامر داوود اوغلو وليس الحكيم عبد الله غول كمنقذ لتركيا وللمنطقة من مغامرات تقترب اليوم من نقطة اللاعودة ،إن لم يخف الحكماء لنجدتها.