عزيزى القارئ، تخيل أنك فى حضرة الآلات التى تراها فى الصورة، مع شغفك بكل هذا الكم من الآلات والألون المبهجة والتى لم يتدخل فيها عنصر التقنية الصناعية الغربية. ..فإنك قد تحتار فى أمرها. أمامك أوركسترا لكن بطريقة مختلفة تمامًا عما عهدناه مع الأوركسترا السيمفوني، فاللون البرونزى والذهبى هو الغالب على هذه الآلات. وإذا اسعدك الحظ واستطعت أن تحضر حفلا لموسيقى الجاملان أو حتى تسمعه من على صفحات الإنترنت فمع بداية العزف ستتملك الحيرة من أذنك ولن يستطيع القلب أن يدق مع الدقات المعدنية التى تسمعها. وستبدأ فى التفكير كثيرا: هل الموسيقى لغة عالمية حقا، وإذا كانت كذلك فلماذا لم تستطع أذنك التعرف على جماليات موسيقى لها مكانتها العريقة فى الثقافة الأسيوية لبلاد جنوب شرق آسيا، كما أن لها مكانة مرموقة فيما أخذه عنها الغرب بدءا بأعمال المؤلف الموسيقى كلود ديبوسى (1862-1918) ليطور من اسلوبة الموسيقى الكلاسيكى الأوروبى وذلك خلال التقاء الغرب بها فى معرض باريس الدولى عام 1889، وانتهاء بانتشار تدريسها فى كل الكليات الموسيقية فى العالم الغربى تقريبا. إن موسيقى بتلك الخصوصية الثقافية والتى من النادر أن تَرد على آذاننا، دائما ما سيخفق ادراكنا السمعى فى تمييز نغماتها وإيقاعاتها وخصائصها، هو لقاء أول لا يمكن أن يكون الأخير، وإلا لن تستطيع فهم المفارقة فى فخامة الحدث البصرى وضوضائية الحدث السمعي. دائما ما يروق لنا أن ننعت الموسيقى بأنها لغة عالمية، لكن فى تلك اللحظات الحرجة والتى تسمح لنا بالانفتاح على الجانب الثقافى المحلى للموسيقى، يكون لنا اختياران إما أن نظل مع رومانسية فكرة الموسيقى كلغة عالمية، أو أن نبذل من الجهد لسبر أغوار أشكال موسيقية تبدو للوهلة السمعية الأولى محض ضوضاء. ولك عزيزى القارئ أن تبدأ بالظاهرة الكونية للصوت، حيث يُشير علم الطبيعة (الفيزياء) إلى أن كل صوت مكون فى داخله من عدة أصوات تتباين فى درجة الخفوت، ويطلق على هذه الغيمة المصاحبة للصوت: اللون الصوتى أو الطيف الصوتي. وعادة ما يُبنى النظام الموسيقى الضابط للشد والجذب على محور نغمة المركز الذى تدور حولها نغمات أخرى ويسمى هذا «النظام التونالي». وهذه العلاقة التونالية تتباين من ثقافة إلى أخرى، وتنعكس فى أشكال سلالم موسيقية ما، حيث يوجد ضبط طبيعى لها أو دخيل على تلك النغمات الطبيعية أو ما يُعرف بانه « ضبط مُعدل»...ومع أن ما يرتبط فى أذهاننا هو الأسماء التى سميت بها النغمات الموسيقية: دو - رى – مي.... فإن الذبذبة المصاحبة لكل نغمة تختلف من ثقافة إلى أخرى، بل وقد تظهر تقسيمات داخلية بين كل نغمة من تلك. ولنتكلم عن موسيقى جاملان جزر جافا بأندونيسيا....حيث إن أول عائق يصطدم بذاكرتنا السمعية هو نظامها التونالي....فمع أنه من الواضح استخدامها لنغمات السلم الخماسى الذى تعرفه جيدا من موسيقى النوبة والسودان والصين إلا أن ترددات هذه النغمات مختلف عما اعتدنا سماعه، فُيترجم الإدراك السمعى الكل إلى نشاز. ويوجد نظامان للضبط فى الجاملان: نظام قديم منشأه أواسط جزيرة جافا وهى مكون من تتابع أربع نغمات وجواب الأولى «تكرارها فى منطقة حادة» ويسمى «سلندرو»، والآخر أكثر تطورا ويتكون من تتابع سبع نغمات وجواب الأولى ويسمى «بيلوج» إلا أنه عادة ما يُنتقى منه تتابع خمس نغمات فقط فى أثناء العزف. وهذا الضبط ثابت على الآلات التى تصنع لتعزف هذه الترددات، لذا توجد دائما مجموعتان من الآلات فى كل نظام ضبط مع أى فرقة جاملان. والجاملان هى الفرقة الطرقية البرونزية.... وتحوى فرقة الجاملان بجزيرة جافا عادة من سبعة أنواع آلات: النوع الأول هو مجموعة الآت الجونج باحجامه المتنوعة والتى تعلق بشكل رأسى، الثانى هو مجموعة من آلات الجونج الموقوفة المثبتة أفقيا. النوع الثالث هو مجموعة الميتالفون تشبه الإكسيلفون ويطرق عليها بمطرقة أو أثنين، أما الرابع فهو مجموعة الطبول. والنوع الخامس: رباب من وترين والسادس فلوت مصنوع من خشب البامبو. أما النوع السابع والأخير فهو آلة تشبة قليلا القانون وتسمى زيثر، وقد يصاحب الفرقة مغنية وفريق كورس رجالى ومجموعة راقصة. المصاحبة الموسيقية الطرقية لألحان الرباب والمغنية، هى عبارة عن إرتجالات منظمة على لحن يسمى «بالونجان» ويعنى حرفيا «العظم»، تعزفه آلات الميتالفون ويصاحبها فى ادائه صفان من آلات الكونج الموقوفة أفقيا لتتكون شبكة اتصال منظمة لجمل موسيقية تؤدى هذا اللحن العظمى فى سرعات وطبقات متباينة فى تزامن يحدث تدريجيا وبإشارات من آلات الكونج الكبير. «البالونجان» ليس لحنا جميلا يمكن أن تصفره كما العادة فى الحاننا الشرقية، بل هو عبارة عن نغمات متساوية فى الطول، حيث يتحول إلى عملية حسابية تقوم بها المجموعة ككل، فتتابع نبضاته المنتظمة حسب المُضاعفات لسرعة اللحن ( 8 – 16 – 32 – 64 – 128 – و256) تؤدى كلها فى دائرة ويحدد نهاية كل دائرة ضربة من الكونج الكبير المتعلق ثم تحدث بعده التقسيمات الداخلية للدائرة يقوم بها مجموعات الكونج المثبتة أفقيا. ولك أن تعرف أن المقطوعات الموسيقية المتوارثة من قديم حضارتهم تلعب ما بين 128 و 256 نبضة. وهكذا لا يمكن التوقف ومواصلة العزف، فالموسيقى هنا نسيج مغاير «هيتروفوني» يُغزل من البداية للنهاية مهما تكن الظروف لمجموعة من الطبقات الصوتية لنفس اللحن بسرعات وطبقات متنوعة تلتف حول هذا «البلونجان». هى شبكة عنكبوتية تواصلية ألهمت علماء البرمجيات مفاهيم ومبادئ علم شبكات الإتصال network. فلندخل إلى علم الإشارات والتواصل الطبيعى من جنوب شرق آسيا وجاملان جزر جافا ذات الموسيقى الطقسية الدرامية الانفعالية ولنتعلم خصوصية الثقافة الموسيقية.