مجلس النواب يحيل 10 مشروعات قوانين للجان المختصة    وزارة العمل: توعية في مجال السلامة والصحة المهنية بمحطة توليد كهرباء بشمال سيناء    وفد من "رجال أعمال إسكندرية" يزور ليبيا لبحث فرص التعاون    وزير الإسكان: مصر سوق واعدة للاستثمار العقاري    رئيس «صحة النواب»: تشجيع القطاعين الخاص والأهلي يحسن خدمات الرعاية الصحية    حصاد 394 ألف فدان قمح وتوريد 582 ألفا و217 طنا بالشرقية    تداول 11 ألف طن و821 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر خلال 24 ساعة    وزارة التجارة والصناعة تستضيف اجتماع لجنة المنطقة الصناعية بأبو زنيمة    زعيمة حزب العمال في الجزائر تعلن ترشحها للانتخابات الرئاسية    باحثة ب«المصري للفكر» تنتقد عجز مجلس الأمن عن إلزام إسرائيل بالانسحاب من غزة    رئيس «المصريين الأحرار»: لن يخرج فائز من الحرب على قطاع غزة    ترامب ينتقد بايدن مجددًا: «لا يستطيع أن يجمع جملتين معًا»    محاضرة فنية أخيرة من جوميز للاعبي الزمالك استعداداً لإياب نهائي الكونفدرالية    البدري: الأهلي قدم مباراة جيدة أمام الترجي .. وتغييرات كولر تأخرت    تصل ل45 درجة.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس ال6 أيام المقبلة    أسماء المتوفين والمصابين في حادث الطريق الدائري بالقليوبية    بسبب لهو الأطفال.. إصابة 4 أشخاص في مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    السجن ل8 متهمين باستعراض القوة وقتل شخص وإصابة 5 آخرين في الإسكندرية    مشاهد من حفل زفاف ابنة سامح يسري.. إطلالة العروس تخطف الأنظار    في ذكرى وفاته.. محطات بارزة في تاريخ حسن مصطفى    تعرف على شروط مسابقة «التأليف» في الدورة ال 17 لمهرجان المسرح المصري    مايا مرسى تشارك في فعاليات افتتاح الدورة الثانية لملتقى التمكين بالفن    صور| باسم سمرة ينشر كواليس فيلمه الجديد «اللعب مع العيال»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    عوض تاج الدين: الرئيس السيسي يتابع منظومة التأمين الشامل أولا بأول    نصائح مهمة من صحة كفر الشيخ لمواجهة الموجة الحارة.. تعرف عليها    رئيس النواب: قانون المنشآت الصحية لن يؤثر على مجانية الخدمة المقدمة للمواطن    طريقة عمل الكمونية المصرية.. وصفة مناسبة للعزومات    رئيس النواب: الحق في الصحة يأتى على رأس الحقوق الاجتماعية    عقب مواجهة الترجي.. وصول بعثة الأهلي للقاهرة    رضا عبد العال: الأهلي حقق المطلوب أمام الترجي    القومي لحقوق الإنسان يستقبل السفير الفرنسي بالقاهرة لمناقشة التعاون المشترك    أحمد أيوب: مصر تلعب دورا إنسانيًا ودبلوماسيًا لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة    وزيرة التضامن تبحث ريادة الأعمال الاجتماعية مع نظيرها البحريني    مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعًا لبحث العملية في رفح    "اليوم التالي" يثير الخلافات.. جانتس يهدد بالاستقالة من حكومة نتنياهو بسبب خطة ما بعد الحرب    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    افتتاح دورة تدريبية عن تطبيقات تقنيات تشتت النيوترونات    شهادات تقدير لأطقم «شفاء الأورمان» بالأقصر في احتفالات اليوم العالمي للتمريض    بيت الأمة.. متحف يوثق كفاح وتضحيات المصريين من أجل استقلال وتحرير بلادهم    رفع اسم محمد أبو تريكة من قوائم الإرهاب    بحضور وزير الشباب والرياضة.. تتويج نوران جوهر ودييجو الياس بلقب بطولة CIB العالم للإسكواش برعاية بالم هيلز    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 19 مايو 2024 بمستهل التعاملات البنكية    موعد عيد الأضحى 2024 وجدول الإجازات الرسمية في مصر    إعلام روسي: هجوم أوكراني ب6 طائرات مسيرة على مصفاة للنفط في سلافيانسك في إقليم كراسنودار    أخبار جيدة ل«الثور».. تعرف على حظك وبرجك اليوم 19 مايو 2024    تعليم الفيوم يحصد 5 مراكز متقدمة على مستوى الجمهورية فى المسابقة الثقافية    إقبال الأطفال على النشاط الصيفي بمساجد الإسكندرية لحفظ القرآن (صور)    «البحوث الإسلامية» يوضح أعمال المتمتع بالعمرة إلى الحج.. «لبيك اللهم لبيك»    أسعار الخضراوات والفاكهة اليوم الأحد 19 مايو 2024.. الطماطم ب 5.5 جنيه    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    مصرع فتاة أسفل عجلات جرار زراعى بالمنوفية    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    نهائي دوري أبطال أفريقيا| بعثة الأهلي تصل مطار القاهرة بعد التعادل مع الترجي    الحكم الشرعي لتوريث شقق الإيجار القديم.. دار الإفتاء حسمت الأمر    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أرسطو والإسلام

الفلسفة فى رأى ابن رشد «هى صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة». وذلك أن عمل الفلسفة هو ما دعا إليه الشرع من نظر فى الموجودات والاستدلال من حسن صنعتها على حكمة الصانع العظيم. وعمل الفلسفة هو إذن وضع تصور للكون يقوم على دليلين توجد نواتهما فى القرآن الكريم: دليل العناية (بالكائنات وتسخيرها لخدمة الإنسان) ودليل الاختراع (إيجاد الكائنات).
ولكن ما هى الفلسفة التى يعنيها ابن رشد ويرى أنها تحقق مقصد الشرع؟ من المؤكد أنه لا يعنى كل المذاهب الفلسفية. أهو يعنى إذن فلسفة أرسطو التى يحث على معرفتها لأن صاحبها هو واضع المنطق (آلة المعرفة») ومؤسس العلوم المعنية بالموجودات على اختلاف مراتبها؟ فهل تكون فلسفة أرسطو هى الحكمة الموافقة للشريعة؟ وبعبارة أخرى: هل تتضمن فلسفة أرسطو ما يدل على اختراع الله للعالم وعنايته به؟
مسألة فيها نظر
أجاب المرحوم محمد عابد الجابرى عن السؤال بالإيجاب. ورأى فيما يتعلق بدليل العناية أنه «ينسجم تماما مع نظام الكون ... [لدى أرسطو]» (مقدمة كتاب ابن رشد، «الكشف عن مناهج الأدلة فى عقائد الملة»، ص 81). وهى إجابة تنطوى على تسرع وتبسيط مخل لأن ما يصفه الجابرى بالانسجام التام ليس من الحقائق الواضحة الثابتة. فتفسير نصوص أرسطو ذات الصلة كان وما زال موضع خلاف بين شراحه. وابن رشد لم يتوصل إلى إثبات ذلك الانسجام إلا كنتيجة نهائية لجهود مضنية فى شرح أرسطو، وينبغى أن نتمهل حتى نرى كيف أجرى بحثه ومدى نجاحه فيه.
الرأى الشائع بين شراح أرسطو منذ القدم هو أن المنظومة الكونية الأرسطية لا تتضمن ما يدل على الاختراع أو العناية، فإله الفيلسوف اليونانى مكتف بذاته منصرف عما سواه ولا تأثير له على الكائنات الأخرى إلا بوصفه موضوعا للحب والشوق أو غاية تنزع نحوها وتتشبه بها.
ولكن هذا الرأى الشائع ليس هو الرأى الوحيد. فمن الشراح من رأى أن أرسطو كان يؤمن بأن الله خلق العالم. وهناك فريق ثالث رأى أن أرسطو جمع بين الرأيين فى مؤلفات مختلفة: الإله الذى يحرك بوصفه غاية؛ والإله الذى يحرك لأنه سبب فاعل. وابن رشد من هذا الفريق الأخير. إلا أنه كان يدرك الصعاب والشكوك التى تكتنف الموضوع ومحاولة التقريب بين أرسطو والإسلام.
من القاعدة إلى القمة
فى بداية البحث فى الوجود عند أرسطو تندرج الكائنات فى ترتيب صاعد من القاعدة إلى القمة. هناك فى أسفل السلم المواد الأولى، وتليها الأفراد المشكلة من هذه المواد (النباتات والحيوانات بما فيها الحيوان الناطق، ومصنوعات الإنسان)؛ وهذه الأفراد مرتبة بدورها بحسب حظها من كمال تشكيلها أو صورها. فهناك قطع الجماد، فالأفراد الحية التى تكون صورها على شكل نفوس: النباتات التى لها نفس نباتية، فأفراد الحيوان التى لها نفس حيوانية، فأفراد الحيوان الناطق (الإنسان) ذوى النفس العاقلة، فالأجرام السماوية التى يعتقد أرسطو أنها بدورها «حيوانات» بمعنى أنها حية ولها نفوس أو عقول مفارقة تقترب من العقل الأسمى الموجود فى القمة (الإله).
ورغم أن أرسطو يرى أن المواد الأولى هى البداية المطلقة للسلم الصاعد، فإنه يؤثر البدء بالأفراد المشكلة ذات الصور المحددة بوصفها محور الموجودات. وسبب ذلك أن أرسطو يريد البحث فى الوجود «كما نعرفه»، أى من حيث هو متاح لنا بوسائلنا المعرفية الطبيعية. ومن ثم كان التركيز على الأفراد المشكلة، فمن السهل الإشارة إليها هنا والآن والتعرف عليها عبر التغيرات التى تعتريها فى المكان والزمان. وهى فى رأى أرسطو تحتل مكانة «الجوهر» فى مقابل سائر الموجودات، فهذه الأخيرة إما أعراض تعتمد فى وجودها على الجواهر أو أنها تعرف عن طريقها بوصفها كائنات أعلى.
والجوهر بهذا المعنى محور لأقوالنا الإخبارية فى المنطق حيث نصف الأفراد بطرق مختلفة، فنسند إليها (أو تحمل عليها) أعراضا من أنواع مختلفة منها ما هو كم (مثل قولنا: «خالد طويل القامة»، أو كيف («خالد أسمر البشرة») أو علاقة («خالد زوج زينب»). والجواهر هى الموضوع الأساسى فى علم النفس لأنها تمثل أمامنا فتكون موضوعا لملكاتنا: الحس والذاكرة والخيال والعقل؛ وهى الموضوع الأساسى فى علم الطبيعة لأنها محور التغير والحركة.
والوجود من حيث هو وجود ليس إذن شيئا غير أنواعه المتعددة مرتبة بناء على الجواهر. وأرسطو يستخدم هنا عبارة غريبة ولكنها مفهومة، فيقول: «الوجود يقال على أنحاء متعددة». يريد أن يقول إن الوجود من حيث هو وجود ليس شيئا سوى تلك الأنواع المختلفة: أى الجوهر وما يعتمد عليه أو يعلوه من موجودات.
والأمر شبيه بذلك فيما يتعلق بمفهوم الواحد. فالواحد بدوره يقال على أنحاء متعددة. وليس هناك واحد فى ذاته. الوجود فى ذاته أو الواحد فى ذاته لا يفضلان العدم: فكرتان لا دلالة لهما إلا إذا قيلتا على أشياء متعددة محددة. ولذلك يرفض أرسطو جميع المذاهب التى تضع الوجود أو الواحد فى ذاته فى قاعدة الموجودات أو محورها، وهو ما قال به فلاسفة سبقوه أو جاءوا بعده. ومعرفة الوجود والموجودات تتحرك إذن فى اتجاه واحد صاعد من القاعدة إلى القمة، أو مما نعرفه إلى ما لا نعرفه.

الفجوة القائمة بين الإسلام وأرسطو
قد يبدو لأول وهلة أن هذا الترتيب قريب من التصور الإسلامى وموافق له. فمفهوم الأشياء المشكلة وفقا لصور على درجة أو أخرى من الكمال قريب من مفهوم الأشياء التى تتميز بحسن الصنعة (بحسن صورها) بحيث يمكن الاستدلال منها على حكمة الصانع.
إلا أن هذا القرب البادى لأول وهلة لا يعنى أن ثمة تطابقا بين التصور الإسلامى والمنظومة الأرسطية كما شُرحت حتى الآن. فهذه المنظومة التى تتمحور حول جوهر أرضى لا تتضمن أى دليل على تدخل إلهى. وصحيح أنها تتألف من درجات بحسب حظها من كمال الصور، ولكن هذا النزوع نحو الكمال يبدو كما لو كان مركوزا فى طبيعة الكائنات لأسباب طبيعية حرص أرسطو على حصرها، وليس من بينها أى علل عليا. وهناك إذن بين المنظومة الكونية الأرسطية وبين التصور الإسلامى فجوة تحول دون الاستدلال من الموجودات على اختراع الله لها وعنايته بها.
لاهوت أرسطو
غير أن مذهب أرسطو يتضمن فى بعض أجزائه انتقال محور التركيز إلى المستوى الأعلى، إلى الإله. وهنا يوجد ما يوصف بأنه «لاهوت أرسطو». ففى الكتاب الثامن والأخير من كتابه عن الطبيعة يدخل أرسطو هذا البعد اللاهوتى عندما يؤكد ضرورة البحث عن الأسباب البعيدة للجواهر الأرضية وللحركة الطبيعية الدائمة فى الزمان. ومعنى ذلك أن نظام الطبيعة بأسره أصبح يعتمد على قاعدة ميتافيزيقية مفارقة للطبيعة. وفى هذا الجزء يقدم أرسطو برهانه على وجود مبدأ أول لحركة الطبيعة. فهذه الحركة لا بد أن ترجع فى نهاية المطاف إلى محرك لا يتحرك، لأنه لو كان متحركا لاقتضى الأمر سببا آخر لحركته، وهلم جرا إلى ما لا نهاية. ولا بد إذن من التوقف عند محرك واحد ساكن منذ الأزل وإلى الأبد (هو الإله). وبذلك أصبح هرم الموجودات يرتكز على قمته الثابتة أبدا وإن كانت الحركة التى تبثها تسرى نزولا من أعلى الأجرام السماوية حتى أدنى الكائنات الأرضية.
وهذا البعد الميتافيزيقى سبب آخر لجاذبية أرسطو بالنسبة لفلاسفة مؤمنين مثل ابن رشد. ومن ثم كان البحث عما إذا كان انتقال محور الاهتمام على هذا النحو يفى بالمطالب الدينية الأساسية. وصحيح أن بعض الشراح نبه إلى أن مفهوم المحرك الأول مقصور من هذه الناحية، لأنه ينصب على التحريك، ولا يمس خلق الموجودات أو العناية بها. يقول ابن سينا: «قبيح أن يصار إلى الحق الأول من طريق الحركة ومن طريق أنه مبدأ الحركة... فإن القوم [يقصد أرسطو وأتباعه] لم يوردوا أكثر من إثبات أنه محرك ليس أنه مبدأ للموجود. واعجزاه!» (ابن سينا، شرح كتاب اللام، فى عبدالرحمن بدوى، «أرسطو عند العرب»، ص 23). إلا أن هذه الشكوك لم تثن بعض الشراح، ومن بينهم ابن رشد، عن التدقيق فى طبيعة التحريك، فلعله يفضى إلى النتائج المرجوة. يصدق هذا بصفة خاصة على أقوال أرسطو كما ترد فى الكتاب الموسوم بحرف «اللام»، وهو جزء شهير من أجزاء كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو.

الإله القائد
الواقع أن بعض أقوال أرسطو فى كتاب اللام مخيبة للآمال. فهو ينص صراحة على أن المحرك الأول «يحرك كما يحرك المشتهى والمعقول». ويعلق ابن رشد (فى تفسيره للكتاب المذكور) على ذلك بقوله: «هذا المحرك [الأول] إنما يحركنا على نحو ما تحركنا الأشياء المشتهاة اللذيذة ولا سيما المعقولة التى نرى أن فعلها خير». ويزيد الأمر شرحا عندما يرى أن هذا المحرك الأول يحرك كما «يحرك المحبوب المحب له من غير أن يتحرك المحبوب». وهذه الفكرة كما نص عليها أرسطو وشرحها ابن رشد نفسه جديرة بأن تقنع الباحث بأن إله أرسطو لا يحرك إلا بوصفه غاية منشودة لا بوصفه سببا فاعلا.
بل إن أرسطو لم يكتف بتلك الأقوال بل قدم برهانا حاسما ينفى به فكرة السبب الفاعل. حدث ذلك عندما تناول طبيعة أفعال الإله، وأهمها عقله أو تعقله. فالإله فى نظره عقل وفكر صرف، وهو يستمد حسنه وكرامته من هذه الصفة التى تعد أكثر صفات الإله ألوهية. إلا أن هذه الصفة فى رأى أرسطو مثار «تحيرات» (= مشكلات)؛ فليس من الواضح «على أى حال تكون» أى على أى نحو يكون تعقل الإله. ويصوغ أرسطو مصدر الحيرة على شكل معضلة: كيف يفكر الله؟ إما أنه لا يفكر فى شىء أو أنه يفكر فى شيء ما. فإذا قلنا إنه لا يفكر فى شىء، كان ذلك معناه أن لا كرامة له – فكرامة الله فى عقله وتفكيره – ويكون شأنه شأن النائم. أما إذا قلنا إن الله يفكر فى شىء، كان ذلك معناه أنه يعتمد فى تعقله على شىء آخر ويستمد كرامته وكماله من غيره. وهو محال. وبناء على ذلك يخلص أرسطو إلى أن الإله يتعقل ويفكر ولكنه لا يعقل إلا ذاته. فالمعقول فى هذه الحالة ليس غير العاقل -على حد تعبيره.
وبذلك ينتهى تفكير أرسطو فى أفعال الله وصفاته إلى طريق مسدود من وجهة النظر الدينية. فهو يعنى أن الإله لا علم له بما يحدث لسائر الموجودات. وتلك فى نظر ابن رشد «شنعة». وهى شنعة تترتب عليها شناعات أخرى، لأن جهل الإله بالموجودات يعنى أنه غير قادر على اختراعها أو العناية بها.
ومع ذلك فإن آراء أرسطو الصريحة وبرهانه على أن تفكير الإله وعلمه لا يخرج عن نطاق ذاته لم يثن بعض الشراح - ومن بينهم ابن رشد - عن مواصلة البحث عن مخرج من الأزمة. وسبب ذلك أن كتاب اللام يتضمن فقرة يبدو أنها تفتح بابا للحل. فى هذه الفقرة يشرح أرسطو موضوع «الخير» و«الجودة» فى «الكل»، أو الكون. فالكون يؤلف كلا مرتبا حسن الترتيب، وهو بهذا المعنى جيد وخير. والسؤال إذن هو: ألم يرجع هذا الخير أو ما هو مصدر هذه الجودة؟ أهو فى الترتيب أم فى شىء متميز بذاته؟ أم هو فى الاثنين معا؟ وهنا يضرب أرسطو مثلا بحالة الجيش، فالجودة فى الجيش ترجع إلى انتظام الجند فى رتب متعددة ولكنها ترجع إلى القائد أيضا، بل إنها ترجع بدرجة أكبر إلى القائد. فخير القائد لا يرجع إلى ترتيب الجيش الذى يوجد دونه بل إن جودة الجيش ترجع فى المقام الأول إلى قائده. والقائد لا يعتمد على الجيش بل يعتمد الجيش عليه. فالجنود فى الرتب الدنيا يتشبهون بقائدهم وما فيه من خير ويعملون من أجله. وعلى غرار ذلك يضرب أرسطو مثلا بما يشاهد من نظام وترتيب فى المدينة ورئيسها، وبما يشاهد من ترتيب ونظام فى البيت (بما فيه من بشر أحرار وعبيد وحيوانات) وعلى رأسه رب البيت. فالخير الذى يوجد فى هذه المنظومات جميعا يرجع إلى ما فيها من ترتيب، ولكنه يرجع بدرجة أكبر إلى رأس المنظومة.
وبناء على ذلك يرى ابن رشد أن آراء أرسطو هذه تزيل الشكوك حول موضوع العناية وتدل على أن الإله يشمل الكون بعنايته.
ومن الواضح إذن أن ابن رشد يعتقد أن الإله عند أرسطو ليس غاية مشتهاة فحسب، بل إنه سبب فاعل أيضا. وهو فى كتاب «تهافت التهافت» يوضح هذه الفاعلية بما يفعله الملك الأول فى مملكته؛ فهو يصدر الأوامر لولاته فيؤدى هؤلاء أدوارهم إذ يصدرون بدورهم أوامرهم إلى جميع الناس. وهناك إذن تكليف من القائد وامتثال وطاعة من الجميع.
فكيف استطاع ابن رشد أن يستخلص هذه النتائج من تشبيهات أرسطو؟ العلاقة بين الرئيس والمرءوسين (فى الجيش أو المدينة أو البيت) تقتصر كما حددها أرسطو على أن هؤلاء الأخيرين يتشبهون برئيسهم ويعملون من أجله، وهو ما يعنى أن أرسطو ما زال ثابتا على موقفه من أن الإله غاية تتجه إليها الموجودات بحكم كمالها وتنتظم فى كيان شامل. وصحيح أن القائد البشرى يأمر ويطاع. ولكن أرسطو لم يشر من قريب أو بعيد إلى هذا الجانب من التشبيه.
بل وقد يقال إن أرسطو لو خطر له أن يطرح فكرة القائد الإلهى الذى يصدر الأوامر لأثار عليها الاعتراضات ولرفضها فى النهاية كما حدث فى تناوله لموضوع التعقل أو العلم الإلهى. وهنا ينبغى أن ندرك بوضوح أن أرسطو يفكر وفقا لمنطق صارم يجافى أى تدخل إلهى، لأن مثل هذا التدخل يترتب عليه أن يكون الإله عرضة للنقص والافتقار والانتقال من حال إلى حال. ويبدو أن هذا المنطق الصارم ينطبق على لاهوته كما ينطبق على فلسفته الطبيعية، ويقوم على التنزيه المطلق فى الحالتين.
فكيف توصل ابن رشد إلى أن وجود الإله فى مركز القيادة من الكون يعنى أنه يشمل الموجودات بعنايته؟ كيف وجد فى أقوال أرسطو الصريحة وفى منطقه السائد منفذا إلى فكرة العناية؟

اجتهادات ابن رشد
لا تفسير لذلك سوى أن ابن رشد أعاد تعريف فكرة العلم الإلهى. فصحيح أن الإله كما رأى أرسطو لا يعرف إلا ذاته ولكنه فى رأى ابن رشد يعرف من ثم الموجودات لأنه موجدها أو علة وجودها. وهو حل مبتكر وثمرة لاجتهاد ابن رشد وليس من عمل أرسطو.
يرى ابن رشد إذن أن العلم الإلهى مباين لعلم البشر، فليس بين نوعى العلم من صلة سوى اشتراكهما فى اسم واحد مع اختلاف المعنى. فالعلم فى حالة البشر يتوقف على سبب خارجى. ومثال ذلك أن المائدة التى أجلس إليها تؤثر على حواسى فأدركها، وهى إذن سبب علمى بها. أما العلم الإلهى، فلا يتوقف وجوده على وجود شيء آخر، لأنه هو سبب وجود الأشياء. والله عليم بجميع الأشياء لأن علمه بها هو ذاته إيجاد لها.
وبهذه النظرية عن العلم الإلهى ينفتح الباب أمام حلول أخرى لأفعال وصفات إلهية أخرى. وذلك أن القول بأن الله عليم بالموجودات لأن علمه سبب وجودها يعنى ضمنا أن الله بسبب علمه الخلاق مريد وقادر وحافظ للموجودات ومعنى بها.
اعترافات الفيلسوف
ونعود إذن إلى السؤال الذى بدأنا به: ما هى الفلسفة التى رأى ابن رشد أنها تلبى مقصد الشرع وأنها الأخت الرضيعة للشريعة؟ أهى فلسفة أرسطو؟ كلا، فهذه الفلسفة، إن كانت تقترب من الإسلام فى بعض الجوانب (الوحدانية مثلا)، فإنها لا تفى بجميع مطالبه، وبخاصة ما تعلق منها بدليل العناية الإلهية. ومن الممكن أن يقال إذن إن الفلسفة التى كان ابن رشد يعنيها هى فلسفة أرسطو ولكن بعد تنقيحها باجتهادات ابن رشد. ويخيل إلى أن ابن رشد كان ينتوى إجراء تلك التنقيحات، وأنه كان يريد إنشاء نوع من الأرستطاليسية المنقحة وفقا لمطالب الإسلام. وقد شرع فى ذلك عندما أعاد تعريف مفهوم العلم بحيث يشمل الإيجاد والعناية. فهل كانت تلك الجهود ناجحة؟ أعتقد أنها كانت مقحمة على أرسطو. ولكن ابن رشد نفسه لم يكن راضيا تمام الرضا عن أدائه فى هذا المضمار، وكان يدرك أن الأمر يستحق مزيدا من البحث. فموضوع العناية وفقا لرأيه فى «الكشف عن مناهج الأدلة» لا تتسع له عدة مجلدات. وهو يقول: «وليس قصدنا ذلك فى هذا الكتاب. ولعلنا إن أنسأ الله فى الأجل، ووقع لنا فراغ أن نكتب كتابا فى العناية...». ونحن نعلم أنه لم يؤلف هذا الكتاب. إلا أن هذا لا ينال من عظمة إسهامه؛ وكثيرة هى الدروس التى خلفها للفكر البشرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.