منذ دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى تجديد الخطاب الدينى لمواجهة الأفكار المتطرفة والمتشددة، تبارت الصحف ووسائل الإعلام فى تناول الموضوع، وتحول أى عابر سبيل إلى مفكر إسلامى يدلى بدلوه فى القضية، حتى اختلط الحابل بالنابل، ولم يستطع البعض التفرقة بين تجديد الفكر الإسلامى وهدم ثوابت الدين، وتنافست وزارة الأوقاف مع الأزهر فى عقد المؤتمرات وإصدار الوثائق واستضافة فريق من المثقفين لبحث الأمر. ومثلما نرى فى «الموالد» الشعبية حلقات الذكر بجانب لاعبى «التلات ورقات»، والشيخ بجانب النشال، والمريد مع المتسول، رأينا فى «مولد» تجديد الخطاب الدينى الماركسى بجانب السلفي، والملحد مع الإمام، والعالم بجوار النصاب، كل يدلو بدلوه ويطرح رؤيته ويحرص على الظهور فى الصورة، ولكل «غرض فى نفس يعقوب»، ولم يعد ينقصنا لاستكمال «المولد» سوى استطلاع رأى الأخت صافيناز وتحضير روح الأخ فلاديمير لينين. وحتى الآن لم نستطع الوصول إلى مفهوم محدد متفق عليه لعبارة «تجديد الخطاب الدينى»، وهى مسألة ضرورية لأن البعض يتحدث عن تجديد الخطاب الدينى من منطلقات غير دينية وبذلك سنبتعد عن الهدف الأساسى وهو محاربة الغلو والتطرف وإظهار صورة الإسلام السمحة، وقد نصل إلى نتائج عكسية نتيجة التصادم مع ثوابت الإسلام، والبعض الآخر ينظر للقضية بريبة شديدة ويتصور أنها مؤامرة على الإسلام والمسلمين، وفريق ثالث يؤمن بالتجديد وينادى به منذ سنوات، لكن أحدا لا يسمع له لإنه لا يعرف طريقه للإعلام. وسبق أن تحدث بعض دعاة الإسلام وعلمائه وفقهائه، عن مصطلح تجديد الخطاب الدينى فمنهم من يقصد به تحديث وسائل الدعوة إلى الإسلام، والتجديد فيها، ومنهم من يقصد بيان حكم الإسلام فى النوازل المستجدة، ومنهم من يقصد تنزيل الحكم الشرعى على الواقع المعاش، ومراجعة التراث الفقهى مراجعة استفادة وتمحيص، وتقريب الفقه للناس وتيسيره بل إن الحديث عن التجديد بدأ منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بالحديث النبوى الشريف : «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة، مَنْ يُجددُ لها دينَها» ، والمجددون لدين الإسلام هم الذين قال عنهم الإمام أحمد بن حنبل: «الحمد لله الذى جعل فى كل زمانٍ فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدي، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائهٍ قد هدوه، فما أحسنَ أثرهم على الناس، وما أقبحَ أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مخالفون للكتاب، مختلفون فى الكتاب، مجتمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفى الله وفى كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّالَ الناس بما يُشبِّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين» الفتاوى الكبرى 6/253. ورغم ذلك مازلنا بحاجة إلى مفهوم محدد لهذا المصطلح، وكذلك بيان آليات تنفيذه. والغريب أن معظم وسائل الإعلام التى تناولت هذا الموضوع ركزت على مواطن الخلاف فى الفكر الإسلامي، وأبدعت فى اللعب على هذا الوتر، مما يعنى أن هدفها الحقيقى كان الإثارة الإعلامية لزيادة نسب المشاهدة والإعلانات، وليس الإتفاق على منهج علمى صحيح يبعد الشبهات عن الإسلام ويتصدى للفكر المتطرف الذى ليس له علاقة بصحيح الدين. والسؤال الثانى هو من المسئول عن تجديد الخطاب الديني؟.. هل هو أى عابر سبيل، أم أى مثقف أو مفكر حتى لوكانت عقيدته الفكرية على خلاف جذرى مع العقيدة الإسلامية؟ والحقيقية أن هذا السؤال يبدو غريبا مع وجود مؤسسة الأزهر، التى تعد أكبر مؤسسة إسلامية للمسلمين السنة فى العالم، وتخرج منها آلاف العلماء والدعاة الذين يجوبون كل بقاع الأرض، وتضم هيئة «كبار العلماء» التى تتكون من كبار علماء الأزهر من جميع المذاهب الفقهية الأربعة ويرأسها شيخ الأزهر. وقد يحتاج الأمر إلى الاستعانة بتخصصات علمية مختلفة، وخبراء من مجالات متعددة عند مناقشة تطوير الخطاب الديني، لكن كل ذلك يجب أن يتم تحت إشراف مؤسسة الأزهر الشريف، وبمتابعة منه لأن الأمر يرتبط بشكل مباشر بالشريعة، ولا يمكن أن يترك لأهواء شخصية بعيدا عن المؤسسة الدينية المعنية بالموضوع، حتى لا ينحرف البعض بالقضية فى دروب أخري، لنجد انفسنا فى مواجهة مشكلات جديدة بدلا من مواجهة التحديات الحالية. إن قضية تجديد الخطاب الدينى أخطر كثيرا مما نتصور، خاصة فى الظروف التى يمر بها العالم العربى والإسلامى الآن، ولابد من التعامل معها بشكل أكثر جدية، وتحت إشراف مباشر من هيئة كبار العلماء، ووفقا لمنهج علمى محدد، وآليات معروفة. ودون ذلك سنغرق أكثر فى مستنقع التطرف والتشدد والجمود، وسنصبح جميعا خارج التاريخ. # كلمات: ليس علينا أن نقلق من جراء هدف يلوح لنا باهت الصورة ونحن نطمح إلى تحقيقه فى المستقبل، وإنما علينا أن نلتفت إلى ما بين أيدينا من عمل فنرسم حدوده ونستجلى أبعاده ثم نركز جهودنا عليه، فالمستقبل كفيل بتدبر أموره بنفسه. توماس كاريل لمزيد من مقالات فتحي محمود