فكرت كثيرا في الكتابة لك, ولكني تراجعت لأني لم أجد في قصتي ما يشد القراء الاعزاء حتي قرأت رسالة السبب الحقيقي واحسست انني يجب أن اكتب لك. انا ابنة أسرة من الطبقة المتوسطة هذه الطبقة التي كادت أن تنقرض. الأب كان من رجال التربية والتعليم الافاضل الذي كان يؤمن برسالة المعلم, كما كان كل جيله, وكان ناصريا وكان مربي أجيال وصاحب رسالة وكبير عائلته يهتم بكل الناس كل الناس إلا ثلاث بنات صغيرات هن بناته. أما أمي فهي اعظم أم في الدنيا, اوقفت حياتها علينا وعاشت من اجلنا لن ادخل في تفاصيل اكثر حتي لا اطيل عليكم واسمح لي ان أرسل لها تحية حب وعرفان بالجميل في عيد الأم. عشنا حياة شبه هادئة في بلد ريفي كانت حياة جميلة وثرية بكل ما يثري العقل والوجدان. عالمنا كان المسافة بين المدرسة والبيت. المدرسة حيث الدراسة الممتعة والانشطة المدرسية والبيت حيث الهدوء والراحة والحب الذي غذتنا به أمي الرائعة. أما أوقات الفراغ فقد كنا نقضيها في القراءة, قراءة كل ما تقع عليه ايدينا الصغيرة, فقد كانت مكتبتنا غنية بكل ما لذ وطاب, وكذلك مكتبة بلدتنا التي ازالوها الآن وبنوا مكانها مكتبة الطفل التي لا يدخلها أي طفل. اعلم انني اطلت في مقدمة ليس لها علاقة بالموضوع ولكنها ذكريات الحياة الجميلة التي عشتها مع اختي علي صوت فيروز. كبرنا احببنا بعضنا واحببنا الناس واتقينا الله عز وجل في تصرفاتنا, واكرمنا الله فتخرجنا ثلاثتنا فيما يطلق عليها كليات القمة. وتزوجت اختاي واحدة تلو الأخري وبقيت انا فقد كنت الصغري, وكانت لي قناعة ألا احب إلا من اتزوجه, ولذلك لم ارتبط سوي به اعني زوجي, فقد تعرفنا علي بعض في السنوات الأخيرة من الدراسة احببنا بعضنا ولم يحاول التلاعب بي, فقد كانت اصوله الريفية مشابهة لاصولي, فذهب مباشرة إلي والدي بالرغم من ضعف إمكاناته, لانه كان في بداية حياته العملية, ولانه لاينتظر مساعدة من والديه, فهذه عادات عائلته, المهم وافق والدي وطلب يدي ووافق والدي علي الخطبة وبعدها بفترة سافر حبيبي إلي احدي الدول العربية لكي يكون نفسه ونتزوج لتستمر خطوبتنا أربعة اعوام وضعنا خلالها القرش علي القرش كما يقولون حتي استطعنا شراء شقة بسيطة وفرشناها بأثاث انيق. رجع خطيبي من السفر لنتزوج في حفل سعيد ضم الاقارب والاصدقاء, وكنا انا وزوجي نكاد نطير من السعادة التي توجها الله سبحانه وتعالي بطفلنا الأول, والذي انجبته بعد الزواج بعشرة أشهر, ثم سافرت انا وطفلي لألحق بزوجي في البلد الذي يعمل به وهنا تبدأ قصتنا فقد كانت الحياة هناك قاسية غربة ووحدة وظروفا مادية وحياتية صعبة. وبالرغم من هذا لم تكن هذه هي المشكلة. كانت المشكلة الحقيقية في ابننا فقد لاحظنا عليه انه منطو ومنعزل وايضا متأخر في الكلام فنزلنا اجازة لنعرضه علي الأطباء لتبدأ الدوامة بين اطباء المخ والاعصاب والسمع ليؤكد جميع الاطباء انه سليم وانه تأخر طبيعي نتيجة السفر وعدم الاندماج في المجتمع, وسافرنا مرة أخري لنعود بعد عام بنفس المشكلة لنعرضه بعد عام, ولكن هذه المرة علي اطباء النفسية والعصبية وبعد رحلة بحث طويلة في مصر والبلد العربي الذي نقيم به شخص ابني وحيدي بانه مصاب بمرض التوحد. ماذا.. توحد؟ نعم توحد مرض ليس له سبب معروف أو علاج سنين طويلة طويييييلة من التخبط والبحث عن علاج أو طريقة لتعليمه وتدريبه لأن جميع الأطباء اوصوا بان العلاج الوحيد في التدريب المستمر, ومن يومها لم اعد انا, اصبحت انسانا آخر انسانا تعيسا. لم اعد اشعر بالسعادة أو الفرح لم اعد اشعر بالاحاسيس الجميلة التي تجمعني بزوجي. إلا فيما ندر حتي بعد ان رزقنا الله عز وجل بطفلنا الثاني والحمد لله طبيعي, اشعر بالألم يعتصرني, لأنه لا يفهم لم لا يلعب اخوه معه, ولم لا يرد عليه, ولماذا يبكي ويصرخ ويعض يده. هل تعلم يا سيدي ماذا حدث تماسكت انا وزوجي وواصلنا الطريق, الحقناه بمدارس متخصصة غالية المصاريف فوق قدراتنا وجربنا كل الطرق التي سمعنا عنها واكتفينا, لم نعد نرغب بالانجاب لكي نستطيع أن نبذل كل ما في جهدنا لإنقاذ طفلنا. وهل تعلم لقد تعلمت في هذه الرحلة القاسية ان اكون صبورة وان ارضي بقضاء الله بل تعلمت أداري مشاعري عن الآخرين فما ذنب الناس حتي يشاركوني احزاني وانا اري ابني البكري يضيع عمره وهو سجين جدران مرض الوحدة, لا يستطيع ان يحطمها ويخرج, بينما افيق انا خارجها احاول تحطيمها بيدي العاريه الدامية. هل تعلم ياسيدي ماذا حدث لقد رزقني الله بطفل آخر مريض بالتوحد تاااااااااااني استغرقت سنتين حتي أفيق من الصدمة, هذه المرة كانت الصدمة اقوي لأني أعرف المر الذي سوف احتسيه والألم الذي سوف اعانيه ووحدة ابني الأوسط التي تضاعفت وألم زوجي الحبيب الذي لا يدخر جهدا ولا مالا في رعاية ابنائه, وهنا جاء وقت الرد علي صاحب رسالة السبب الحقيقي سيدي الفاضل ابناؤنا امانة في اعناقنا والحياة دار ابتلاء, والابتلاء ليس بالضراء فقط, ولكن بالسراء ايضا يكون بالصحة والمرض بالغني والفقر بالذرية وعدم وجود الذرية, هناك من يتمني ان يكون ابنه مثل ابنك حتي لو كان مريضا نفسيا, وهناك رجال يتمنون من الله زوجة صالحة تفني حياتها في خدمة زوجها وابنائها مثل زوجتك, ان الأم ياسيدي تكون اكثر ألما لأنها تكون اكثر احتكاكا بالواقع الأليم واكثر تعايشا معه وفي بعض الاحيان تخفي عن الأب بعض التفاصيل المؤلمة حتي تجنبه الألم والإحباط. سيدي ان زوجي يعود من عمله بعد يوم عمل شاق حوالي اثنتي عشرة ساعة متواصلة ليجدني منكوشة وعصبية فيدخل ليصلي قبل تناول طعامه ليدعو لي وله بالصبر, ويدخل المطبخ ليساعدني في نقل الأطباق مادحا مظهري الذي رتبته علي عجل عندما سمعت وقع خطواته علي الدرج فيزول عني التعب والحزن جزاه الله كل خير عني وعن اولاده, واخيرا إلي كل من لا يعجبه رزقه في الحياة اطلب منه بل أرجوه ان يرضي لأنه لو علم الغيب لاختار الواقع, والرضا لمن يرضي وشكرا لكم مشاركتي أحزاني المتواضعة. { سيدتي.. هذا هو الزواج بمعناه الحقيقي, الميثاق الغليط, نفس واحدة في جسدين.. هذا الفهم العميق التلقائي للزواج هو الذي ساعدك وزوجك علي مواجهة المحن والتصالح معها بايمان شديد ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله, ومن يؤمن بالله, يهد قلبه, والله بكل شيء عليم صدق الله العظيم. إنها الهداية ياسيدتي التي من الله بها عليكما, فابتلاكما بمرض طفليكما ومنحكما الصبر والحكمة والرضا وهذا ما قاله رسولنا الكريم في الحديث الشريف: إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في السخط. هذا يا سيدتي هو الفارق بين ما جاء في رسالتك وصاحب رسالة السبب الحقيقي فهو إنحاز لأنانية الفرد في محاولة للهروب من واقع مؤلم هو مبتلي به ومسئول عنه وكأنه يبحث عن محطة لسعادته, تاركا للآخرين آلامهم وأحزانهم. أما زوجك الذي آمن بأن الإنسان ولد في كبد, آمن بمسئوليته ورضي بقدر الله فزاد قلبه رقة ليرقي إحساسه بك وبما تعانينه فزاد قربه وعطاؤه علي الرغم من تعبه ومعاناته في العمل حتي يكفي ما يحتاجه المريضان, وما كان ما أتي به بساتين محبة في قلبك المجهد. الأزمة الحقيقية يا سيدتي تبدأ عندما لا يرضي الإنسان بما كتبه الله عليه وابتلاه به فيفر منه, ولكن هل نفر من قضاء الله إلا لقضاء الله, فلو آمنا بأن هذا الإبتلاء في ميزان حسناتنا وأن رضاءنا به وتعايشنا معه هو الذي يعيننا علي مواجهته, بل يجعلنا نتلمس السعادة في عز المأساة. فلو فر كل إنسان, رجل أو امرأة, عندما تواجهنا الأيام بما لم نتوقع, ماعمر بيت وما استمرت زيجة, ولكنه الصبر والرضا والإيمان بفرج الله.. تأملي معي قول سيدنا علي بن أبي طالب: لا تجز عن إذا نابتك نائبة واصبر ففي الصبر عند الضيق متسع سيدتي.. كثيرون يحلمون بالتوحد مع شريك الحياة ولكنهم يعجزون مع توافر كل المقومات الظاهرية, أما أنت الأم والزوجة الرائعة, وزوجك الأب العظيم فقد جمعكما ونثر المحبة في قلبيكما توحد طفليكما, لتصبح مبررات الشقاء هي نفسها موطن قوة علاقاتكما, زادكما الله حبا ومودة ورحمة وأعانكما علي ما ابتلاكما به ورفعه عنكم جميعا وهدي كل الأزواج لما فيه السعادة والاستقرار. وإلي لقاء بإذن الله..