يا لها من عبارة قوية تدعو إلى الفخر لكل مصري، لقد خرج السيد المسيح من وطنه بعد شهور قليلة من ولادته ليهرب إلى مصر؛ من وجه هيرودس الملك الذى أراد أن يقتله لأنه علم من المجوس وحكماء إسرائيل عن ميلاد طفل سيصير ملكاً. فظهر الملاك إلى يوسف النجار وقال له: «خذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر». وهذا ما يدعو للتساؤل لماذا اختار السيد المسيح أن يأتى إلى مصر؟ ولماذا لم يذهب إلى أى بلد آخر وكانت هناك بلاد أقرب من مصر؟ وهل كان حقاً هروباً أم كان تدبيراً لبركة بلادنا مصر؟ فالمسيح الذى أقام الأموات وصنع المعجزات ومشى على البحر وصعد إلى السماوات، هل كان يمكن أن يخاف من هيرودس؟ فقد كان يمكن أن يموت هيرودس أو على الأقل يختفى المسيح بقدرة إلهية ولا يعرف أحد أين هو كما حدث مع يوحنا المعمدان الذى اختفى حتى ظهر بعد ثلاثين عاماً. إذن لم تكن صدفة مجيء المسيح إلى مصر بل كان هناك هدف أراده الله وهو أن يشير إلى تلك الأرض التى لها أهمية خاصة عند الله. فهل كانت صدفة أن يأتى إلى مصر إبراهيم ويعقوب آباء الأسباط ورجال الله المحبوبون؟، وهل صدفة أن يأتى يوسف الصديق وينقذ العالم من مصر؟ وهل صدفة أن يولد منها موسى النبى ويتربى فى قصر الفرعون ويكلمه الله وجهاً لوجه على جبل سيناء؟ وقد قال الله لنبيه إشعياء قبل ميلاد المسيح بثمانية قرون «مبارك شعبى مصر». ولعل أحدا يظن أننا مصابون بالشوفانية أو البرانويا. ولكن كل دارس للحضارة المصرية يعرف أن المصريين كانوا ولا يزالون أكثر الشعوب روحانية، فيقول العالم أدولف أرمان عن شعب الفراعنة «هؤلاء القوم لم يكونوا بمنأى عن العقيدة الحق». فقد كان اعتقاد المصريين القدماء أن روح الإنسان أو «البا» هى خالدة ولكنها معرضة للفناء إذا أهملت هذه القوى، وإذا أفنيت لا يعود الإنسان للحياة مرة أخرى فاهتموا بالروح والعبادة. ولم يكن المصريون يعبدون الوثن بل كانوا يعبدون الإله العظيم الواحد ويصورونه فى صور قريبة من حياة البشر ولكن إيمانهم كان فوق هذه التصورات وهذا ما تراه من أناشيد العبادة فكانوا ينشدون إلى أوزوريس إله الخلود: «الحمد لك يا أوزوريس يا إله الأبدية ورب الأرباب، يا صاحب الأسماء المتعددة، والعرش الأزلي، الواحد القوى الذى تمجده السماء والأرض». فقد كانوا يطلقون الأسماء المختلفة ولكن الإله واحد فقد رنموا أيضاً لأمون وقالوا: «الحمد لك يا أمون رع الموجود فى كل مكان، الكائن فى كل شيء، الوحيد فى طبيعته، إله الآلهة ورب الأرباب، الوحيد الذى لا شريك لك خالق كل شيء». وقد عرفوا الإله الواحد قبل إخناتون ولكن إخناتون هو الذى أزال باقى أسماء الآلهة وابقى على اسم الإله الواحد «أتون». لذلك جاء السيد المسيح إلى مصر حيث تلك الروحانية والإيمان القوى بالله ليشير إلى أن تلك الأرض هى إشعاع روحى فى كل المسكونة، وهذا ما حدث فعلاً فقد صارت مصر قوة روحية فيها كانت أقدم أكاديمية علمية لاهوتية أسسها مارمرقس فى القرن الأول ومنها خرج الفكر اللاهوتى وقانون الإيمان. ومنها تعلم العالم كله الرهبنة المسيحية. وصارت مصر حاضنة لكل فكر روحانى على كل الصور والحضارات الفرعونية ثم القبطية ثم الإسلامية. لهذا قد جاء المسيح إلى مصر ليلفت نظر العالم كله إلى أن مصر أرض مقدسة. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة لمزيد من مقالات القس انجيلوس جرجس