الدراما والكتب المدرسية كثيرا ما تعرض الشخصيات والأحداث التاريخية بالمقلوب .. لهذا يهمنا أن نعرضها .. بالمعدول أسئلة كثيرة تدور حول "إخناتون" أو "آمونحتب الرابع"، عاشر ملوك الأسرة الثامنة عشرة من ملوك مصر، تلك الأسرة التي أسست الدولة الحديثة من دول مصر الفرعونية، وابن الفرعون العظيم "آمونحتب الثالث" الذي حكم مصر كدولة مستقرة مزدهرة لقرابة الخمسين عاما، فهو وإن لم يخض حروبا كبيرة إلا أنه حافظ على النفوذ الذي ورثه من آبائه والممتد من سوريا شرقا للسودان جنوبا، واستغل ثروات مملكته في نهضة مدنية وفنية وحضارية مازالت آثارها باقية لليوم. لم يكن "إخناتون" هو أمير التاج المعد ليرث عرش أبيه أول الأمر، لكن وفاة شقيقه الأكبر دفعت به لهذا الدور، فورث عن والده ذلك العرش المستقر والدولة المزدهرة التي اضمحلت في عصره. إخناتون وممارسات العنف الديني نظرا لطبيعته التي تميل للفلسفة والتأمل والتوحد، كان الأولى بإخناتون أو "آمونحتب الرابع" أن يتنازل عن العرش لأحد إخوته الأصغر ليتفرغ هو لأفكاره وتأملاته، لكنه سقط في غواية الجمع بين الفكر والسلطة وتوظيف السلطة لخدمة فكره الديني. فقد عبد إخناتون إلها واحدا أطلق عليه اسم "آتون" ورمز له بقرص الشمس المشرقة، وكان هذا أمر يخص الفرعون وزوجته نفرتيتي في السنوات الخمس الأولى من حكمه، ولم يكن بهذا من بأس، لكنه بعد ذلك غير اسمه إلى "آخن-آتون" نسبة للإله الواحد آتون، وغير عاصمة ملكه من طيبة التي كانت عاصمة مصر في ذلك الوقت لقرون طوال إلى مدينة بناها في مصر الوسطى باسم "آخيت-آتون" وتعني أفق آتون، ثم وقع في الخطيئة الكبرى التي قضت على استقرار مصر والسلام الاجتماعي فيها في العام التاسع من حكمه، حين أمر جيشه أن يغير هوية البلاد ويمحو أي أثر لعبادة آمون وغيره من الآلهة المصرية القديمة، فهدمت المعابد وشوهت الخراطيش بما فيها تلك التي تحمل اسم والده الذي اقترن باسم الإله آمون (آمون-حتب)، كما تم التضييق على كهنة آمون ومنعهم من ممارسة النشاط الاقتصادي والإشراف على المنشآت الحرفية والزراعية التابعة للمعابد، وحل ضباط الجيش محلهم في ذلك. وتقول أحد الروايات التاريخية أن 20 ألف مواطن أجبروا على النزوح من طيبة إلى العاصمة الجديدة. لقد ظن الفرعون أن بوسعه طي صفحة ثقافة تعدد الآلهة في مصر - - والتي استمرت لأكثر من ثلاثة آلاف عام قبله على الأقل - في بضعة أعوام، ليس عن طريق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة للإله الواحد كما فعل الأنبياء، ولكن عن طريق الإكراه والقوة الجبرية، تماما كجماعات العنف الديني مثل تلك المعروفة بجماعة الأمر بالمعروف التي ظهرت في مصر بعد الثورة. فكانت النتيجة أن طويت صفحته هو من تاريخ مصر، وظل مجهولا لقرون طوال حتى اكتشفت أطلال عاصمته المعروفة الآن بتل العمارنة. فقد أجبر الفرعون على التخلي عن السلطة ومات بعدها بفترة قصيرة ليخلفه فرعون غير محقق الهوية هو سمنخ-كارع، ثم سيدة يرجح أنها نفرتيتي أو كيا أحد زوجتيه لفترة أقل من عام، ثم توت-عنخ-آمون، والذي تمت في عهده سيطرة رجال الجيش على السلطة الفعلية وعودة المؤسسة الدينية لمعبد آمون لسابق قوتها، ومحو كل أثر للديانة الجديدة وآتون انتقاما من العنف الديني الذي مارسته الآتونية ضدهم سابقا. وكذلك استعادت مصر قوتها بالعودة للاهتمام بحماية الحدود ونفوذ مصر الخارجي أمام أطماع الحيثيين وغيرهم والتي كانت قد تدهورت بعهد الفرعون المشغول بفرض عقيدته أطلال مدينة آخيتاتون في تل العمارنة صراع سلطة أم صراع عقائد؟ إخلاص إخناتون لعقيدته والرب الواحد آتون يبرر دعوته لعبادة الإله الواحد، لكنه لا يبرر القمع الديني الذي مارسه ضد كهنة آمون ومعابدهم، والمبرر الأقوى هنا هو النفوذ القوي والثروات الطائلة التي تراكمت بيد المؤسسة الدينية في سنوات حكم والده المستقرة شديدة الرخاء. وإلا لماذا أعلن إخناتون نفسه بأنه الوسيط الوحيد للتواصل مع الرب آتون؟ وأمر جنوده بالسيطرة على كل المؤسسات الاقتصادية التي كانت لكهنة آمون بصفته المتحكم الوحيد فيها بأمر الرب؟ تلك أمور لا يبررها الفكر ولا الإيمان ولكن تبررها السلطة وقوانينها. وهكذا استغلت أسمى معاني الدين عبر التاريخ غطاء لصراعات السلطة، ومازالت تستغل حتى يوم الناس هذا. هل كان النبي موسى تلميذا لإخناتون؟ هذه النظرية أطلقها سيجموند فرويد قديما، وتقول بأن موسى هو أحد كهنة آتون الذين فروا من مصر بعد انهيار دولة إخناتون، وراح الأثري المصري "أحمد عثمان" لأبعد من ذلك بالقول بأن موسى وإخناتون كانا في واقع الأمر شخصا واحدا، معولاً في هذا على التقارب الزمني بين التأريخ التوراتي لزمن نبي الله موسى والحقبة الزمنية لإخناتون، وتقارب بعض نصوص التوراة مع متون أدعية إخناتون. وهي النظرية التي يرفضها معظم علماء المصريات لعدم وجود دليل عليها، تماما كما لم يوجد دليل على نظرية فرويد غير الظن والتقدير. هل إخناتون هو أول الموحدين في التاريخ؟ لقد عاش إخناتون في القرن 14 قبل الميلاد، بينما وجدت إشارات في نصوص سومرية قديمة ترجع للقرن 30 قبل الميلاد لعبادة إله واحد، وكذلك وجدت في جزيرة كريت في العصر البرونزي حوالي عام 2700 قبل الميلاد حضارة المينوان التي عبدت ربة أنثى واحدة أطلقت عليها تسميات عدة مثل راعية الحصاد وربة الأرباب، واعتقد الأثريون لفترة أن تلك الأسماء وتماثيل وأيقونات قديمة تشير لتعدد الربات، حتى برهن أحد الأثريين على أن التماثيل هي لكاهنات المعبد في أوضاع تعبد، وأن الأسماء كانت كلها لربة واحدة عبدها الكريتيون في ذلك الزمان. هذه الكشوف وأشباهها تتماشى مع العقيدة التي يشترك فيها المسلم والمسيحي واليهودي، وهي أن التوحيد بدأ على الأرض مع بداية وجود البشر العاقل مع آدم عليه السلام، ثم حدث الانحراف الفكري عن التوحيد، والعودة إليه عبر العصور من خلال رسالات الأنبياء كما من خلال أفكار بعض الفلاسفة. إخناتون ونفرتيتي .. قصة حب .. وتعدد زوجات إخناتون ونفرتيتي في نقش أسري مع ثلاثة من بناتهما، مشهد ميز فن العمارنة كان فن العمارنة مخالفا لتقاليد الفن المصري القديم، فكان أميل للواقعية منه للتعبير والرمز، لهذا أظهر الملك بجسده الذي يحمل بعض علامات الأنوثة، ورأسه الغير وسيم الملامح، وكذلك التماثيل الرأسية لبناته الست بالجمجمة البيضاوية والشفاه البارزة والأنف الكبير. وبالمثل لم يتجنب فن العمارنة إظهار الملك والملكة في أوضاع الحياة اليومية، وكان منها تمثالهما الشهير متجاورين في وضع غرامي، وهو ما أدى لانتشار انطباع عام مبالغ فيه عن قصة حب الملك والملكة الجميلة نفرتيتي، وربما كان هذا صحيحا لكنها لم تكن ملحمة حب ووفاء بالمعنى المعروف اليوم، فالمعروف أن إخناتون لم يكن عابدا ناسكا فيما يخص نقطة تعدد الزوجات، فقد تزوج فضلا عن نفرتيتي من "كيا" والتي يرجح أنها صاحبة المومياء المعروفة بالسيدة الشابة في المقبرة "كي في 35" بوادي الملوك، والتي أثبتت أبحاث الدي إن إيه مؤخرا أنها والدة الفرعون الشاب الشهير "توت عنخ آمون" لتثبت بذلك أنه كان الابن المباشر لإخناتون. كذلك تزوج إخناتون بزوجة لبنانية هي ابنة ساتيا أمير بعلبك، وأخرى عراقية هي ابنة ملك بابل، فضلا عن زواجه من ثلاثة من بناته. وبهذا يكون عدد الزوجات المؤكد له تاريخيا 7 زوجات. وقد رجحت أبحاث الحامض النووي في 2010 أن مومياء المقبرة رقم كي في 55 في وادي الملوك هي لإخناتون نفسه، وأثبتت علاقة الأبوة بينه وبين توت عنخ آمون. مومياء السيدة الشابة من المقبرة كي في 35 بوادي الملوك في النهاية، كان تعبد إخناتون لرب واحد أمرا رائعا، خاصة أنه كان من أوائل القائلين بالتوحيد تاريخيا (وليس بالضرورة الأول كما بينا)، لكن تورطه في محاولة فرض عقيدته بالقوة الجبرية كان الخطيئة الكبرى التي أهالت التراب على تجربته الروحية، وأدخلت مصر في صراع داخلي فقدت فيه السلام الاجتماعي، وكذلك كانت محاولته الجمع بين موقعه كفرعون وصفة الكاهن الأكبر لآتون سببا في انشغاله عن مهامه السياسية ومن ثم انهيار نفوذ مصر الخارجي وتردي الأوضاع داخليا. فلو كان الله سبحانه وتعالى قد وصف نبيه في القرآن بأنه مذكر، وأنه ليس على الناس بمسيطر، فلا توجد صلاحية لأحد لفرض عقيدته على الناس حتى لو كانت عقيدة حق وكانت عقائد هؤلاء الناس باطلة. هل كان إخناتون فعلا أول القائلين بالتوحيد في التاريخ هل كان أحد الملوك العظام في تاريخ مصر؟ هل كانت الثورة ضده مجرد مؤامرة من كهنة آمون لاستعادة نفوذهم؟