قليلة هى ومضات البهجة فى حياتنا المترعة بالألم واليأس والالتباس والقنوط والحزن الساكن فى ثنايا وتفاصيل معاشنا اليومى. هذا المقال ليس تمرينا فى وصف الحزن والتعاسة واليأس، وإنما فى مديح البهجة التى تبدو كومضة حاملة معها الأمل وإيقاعات الحركة المتوثبة نحو المستقبل الآتى، إذا استمرت بعض المبادرات الفردية أو الجماعية المفعمة بالحيوية والإرادة والإيمان بقيمة العمل من أجل تغيير وجه الحياة فى صعيد مصر انطلاقا من الدافعية لتغيير واقع البؤس والتدهور الثقافى الرسمى والكسل والبيروقراطية المؤسسة على الجمود والبطء وإعادة إنتاج بعض من موروث أفكارها البليدة فى واقع وعالم يهدر بالتغيير النوعى فى الأفكار والقيم وأشكال غير مألوفة من الإبداعات التقنية والفنية والمعلوماتية والتحول الكيفي السريع في الأبنية العقلية والفلسفة وفي الذائفات الفردية والجماعية والتغير في نظم الأخلاق وفي الرؤي التي تقود عالمنا المعولم الفوار بالحركية والبناء.. عائد من إحدى أعرق القرى المصرية قاطبة «دندرة»، حيث حفرت القرون والثقافات علاماتها فى الإنسان، ورسخت وتأصلت كعنوان على الأعماق الغائزة فى التركيبات المتعددة وتواريخها فى نسيج المصرى الصعيدى حيث التجاور والالتحام بين معبد حاتحور - آلهة الجمال - حاملا تاريخا من العظمة والبناء والحضارة والإنسان الحامل لهذه المواريث وتواريخها المتعددة، ولا يزال يحملُ فى حناياه الصبر والأمل رغما عن كل المشكلات والصعاب والتهميش التاريخى للجنوب فى إدراك وذهنية نخب سياسية وراء أخرى ظلت فى دوائر المركز/ العاصمة لا تأبه بتنمية أو صحة أو تعليم جاد، أو ثقافة حيّة تحرك فى البشر والإنسان الصعيدى منابع الجمال، والشجاعة فى دمائه الفوارة بالصلابة والرغبة في البناء.
ظلت سياسة الثقافة الرسمية منكمشة على استعراضاتها فى العاصمة حول حواشى «السلطان الجمهورى»، وبعض من مثقفى القاهرة، وحولهم بعض من مثقفى الأرياف، ومؤتمرات ما يسمى أدباء الأقاليم، بينما العمل الثقافى أفكار ومشروعات ومبادرات - يفتقر إلى الرؤيا والخيال الإبداعى، وروح المبادرة الخلاقة، إزاء الجنوب الذى تسرى فى دمائه الحيوية والإبداع، وظل مقصيا فى غالبه من حضور المؤسسة والسلطة الثقافية الرسمية المهجوسة بوهم النخبة وجذب اهتمام «السلطان الجمهوري» عند قمة الحكم في العاصمة الصاخبة بطبول الأنشطة التي تستهلكها القلة النخبوية الكسولة.
مفعُم بالبهجة والأمل إلى حد ما، بعد قضاء أيام منتدى مركز دندرة الثقافى الأول، الذى جاء بمبادرة شجاعة ومحمولاً على إرادة الأمل، والدافعية للفعل - والتغيير للواقع الاجتماعى والاقتصادى المأزوم، والرغبة العارمة فى التغيير - من الأسرة الدندراوية بقيادة أحد أبنائها السيد/ الأمير فضل الدندرادى، وعديد من شباب الأسرة زميلنا هانئ رسلان - فى الصعيد وخارجه، وذلك تطويرا وتجديدا لتقاليد الأسرة التى كانت دندرة مقراً لقبلية الإمارة أو الأمراء التى هاجرت إلى مصر فى القرن الخامس عشر الميلادى من المغرب، حيث تأسست على يد السيد محمد الدندراوى عام 1875، وتعتبر الأسرة الدندراوية ممثلة لتيار الوسط الإسلامى المعتدل الذى يؤسس على التسامح وعدم الجمود، وأن الدين أجياله متوثبة والدنيا معاصرة متجددة.
الأسرة تمتد داخل مصر، وفى عديد البلدان العربية والإسلامية والغربية ولا تعمل بالسياسة، ومن أوجه عملها الأخلاقى والروحى والثقافى إصدارها للوثيقة البيضاء، وتم اعتماد مفهوم المراكز الثقافية، بديلا عن مسمى الساحات، وهى كيان مسجل قانونيا وله عديد الأفرع فى مصر. الجديد أن هذه المراكز تقوم بتقديم أنشطة ثقافية وتربوية وتنموية، بالإضافة إلى الدروس الدينية، وحفظ القرآن الكريم.
خلال الأيام من الخميس 21 إلى الأحد 24 مايو 2011 عقد المنتدى الثقافى الأول، الذى حضره فى يومه الأول أكثر من خمسة آلاف، ثم إلى ما يقرب من عشرة آلاف شخص، فى تنظيم محكم، وشكل جميل وناصع من النادر أن ترى هذا التنظيم وجمالياته المتقشفة فى أكثر فعاليات وأنشطة الدولة وأجهزتها الثقافية وغيرها، وهى مفاجأة كبرى، والأهم هو الحضور المنصت المتشوق للمعرفة والأفكار الجديدة، وللشعر، وللفنون التقليدية وعلى رأسها الفروسية، وفن التحطيب ذو الجذور الفرعونية والذى يعبر عن الفروسية والمهارة وقيم الصبر والمروءة والشهامة والشجاعة الشمم، حيث مارس اللعبة علي مدي أيام المنتدي شيوخ اللعبة وشبابها وانتقال الخبرة في الممارسة من الكبار إلي الشباب..
المنتدى الأول، جمع فعاليات أخرى، منها فن الواو وشعراؤه الكبار فى الجنوب ومعرض للفنون التراثية، وللكتاب، وعديد الجلسات - حضرها من خمسة آلاف إلى أكثر من عشرة آلاف رجل وامرأة وطفل وطفلة - يستمعون إلى المحاضرين، ويتفاعلون بالمداخلات والنقاشات، والأهم أن برامج المنتدى تناقش بحرية ونقد، وسعى إلى التطوير.
شارك أيضا شعراء دندرة وقنا والصعيد والنوبة فى أمسية شعرية حضرها الشعراء حسن طلب، ومحمد أبو دومة، والفضل بدران ومحمود عبد السميع وآخرون، وثمة مواهب ظهرت رغم كلاسيكية النصوص الشعرية. يعتمد مركز دندرة الثقافى على رؤيا تذهب إلى أن «الإنسان هو موضوع ومادة التنمية المستدامة فبغير بناء الإنسان لا تتحقق التنمية» ويأخذ المركز بعديد من المسارات التعليمية والثقافية والبحثية، ولكل واحد منها عديد من الآليات.
إن الشوق العارم إلى المعرفة والثقافة فائض وطالع من عيون وانتباه الآلاف من حضور المنتدى الذى ركز على ثقافة الجنوب: أصالة وإبداع متجدد، والتنظيم الصارم، وهذه النزعة التطوعية المتدفقة بالحماس والرغبة فى الإنجاز، والتراكم المتجدد، هى الجديد فى هذه المبادرة المهمة، لأنها تعكس إدراكا صحيحا للترابط بين التنمية والثقافة، وبين التعليم المتجدد والثقافة، ومن داخل وعى بعض قادة الأبنية التقليدية - قبيلة الإمارة/ الأسرة الدندراوية -، وبين التحديث وبعده الثقافوى، ومن ثم إذا استكمل نجاح هذه المبادرة وتراكمت وتجددت، ربما تدفعنا لإعادة النظر فى أدوار بعض هياكل القوة التقليدية فى علاقاتها بالتحديث، والأهم.. الأهم.. هو سياسة الثقافة من أسفل من خلال انطلاق المبادرات الفردية، والجماعية من المجتمع الأهلى للربط بين «التنمية المستدامة»، وبين المكون الثقافى كرافعة أساسية لها.. هذا الإدراك والتصور جديد فى مواجهة تراجع فاعلية الثقافة من أعلى، وذهنية الفصل بين الثقافة والتنمية لدى النخب السياسية المصرية المتعاقبة التى قامت بتأميم المبادرات الفردية والجماعية من خارج جهاز الدولة، بل وقمع هذه المبادرات عند المنابع. من هنا شكلت مبادرة الأسرة الدندراوية مفاجأة مبهجة من خلال العمل الجاد والدءوب الذى قد يؤدى إلى تغيير وجه الحياة والإنسان فى الجنوب. عمل رائد مُفعُمً بالحيوية، ويتدثر بالأمل من خلال الروح الشابة الجديدة التى تريد التغيير للأفضل بالإرادة وشباب الفكر والفعل. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح