«عندما تعالج الأقدار مصائر البشر. فإنها لا تراعى العدل ولا الرحمة»، حدث ذلك مع أمى وهى على المسرح لم تستطع أن تسترد صوتها باعت كل ما تمتلك وكانت تغنى بصوت هزيل.. انفصل والدى عنها بعد ميلادى بعام وكانت تصحبنى معها إلى المسرح .. وأنا فى الخامسة من عمرى واقفاً وراء الكواليس أرقب غناءها ورقصها . . عجزت فجأة عن الغناء وبدأ الجمهور يضحك وظلت الضحكات تزداد فارغمت أمى على ترك المسرح ودفعنى مدير المسرح - الذى شاهدنى أمثل من قبل - للغناء بدلاً منها .. تدفق على سيل من النقود .. فتوقفت عن الغناء حتى أجمعها بيدى الصغيرة .. تدهور بنا الحال ولم تجد بداً من لجوئنا أنا وهى وشقيقى إلى الملجأ.إنه شارلى شابلن معجزة الفن الكوميدى الذى أضحك العالم بفلسفة قلما تتكرر لمدة قرن .. ذاق هذا الفنان العظيم طعم الفقر امتهاناً وكان يستخرج طعامه أحياناً من صندوق القمامة كما روى فى مذكراته الشخصية الممتعة التى نستخلص منها أن الإنسان فى مثل هذه الأحوال إما أن يرتفع إلى مستوى مأساته ليعالجها ويهادنها حتى يتغلب عليها أو يستسلم لها فى يأس لتمزق نسيج الأمل ولا تترك له أى رجاء.شاعت أحاديث الفقر والمعاناة بحكم انتشار القصص الإنسانية المؤلمة فى مصر وعالمنا العربى المنكوب بأحداثه المتتالية فيما تتوارد وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى – بصفة خاصة – هذه القصص باحتفاء يلفت الانتباه .. وفى كل مرة أقرأ فيها عن مأساة إنسانية ربما دفعت صاحبها للوقوف على حافة الهاوية والنظر إلى أسفل فى يأس وقنوط .. أفاجأ بانتصار الإرادة والرغبة فى البقاء .. فتزداد دهشتى ويغمرنى إعجاب وفخر شديد بعظماء من المهمشين .. أشقاء شابلن فى الكفاح .. أصحاب المواهب والكنوز المطمورة فى عالم الشقاء والعشوائيات فى كل ربوع مصر.
ذكرت وكالة رويترز أن عدد سكان الهند الذين يعيشون فى مناطق الحضر سيتضاعف بحلول عام 2050 .. وهذا يعنى مزيدا من الشقاء الإنسانى .. فى بلد الأكثر من مليار نسمة .. الهند بلد اللغات والديانات والمذاهب والإثنيات والأجناس المتعددة ..
فلسفة غاندى العالمية فى «اللا عنف» والفقر المدقع .. والثراء الفاحش .. والخصوصية الثقافية والأدبية والفنية لواحدة من أعرق الحضارات تجابه الآن مستحيلات تتصدى لها بالرصد والدراسة والتشخيص .. مثل مأساة تأجير الأرحام وزواج الصغيرات وتسرب الأطفال من التعليم وعمالتهم المبكرة دون العاشرة .. ومشكلة تدنى الدخول - أقل دخل سنوى فى العالم - فى بعض المناطق لا يتجاوز 300 دولار بالإضافة لسوء تغذية وفساد متشعب بتشعب اللغات والأديان.
وبالرغم من عشرات الصفحات التى تكتب عن تحديات الهند وتطلعها للصعود إلى المريخ وارتهان إرادتها السياسية بالديمقراطية ورعاية العلم والعلماء وفنون بوليوود الساحرة .. فى خضم كل هذه التحديات .. تطالعك الصحف ووسائل الإعلام بنماذج إنسانية مضيئة تشرئب لها الأعناق احتراماً وتبجيلاً وتتمنى لو حظيت المحروسة بمثل هذه الروح المفطورة على إنكار الذات .. فهذا إديتيا كومار الرجل الأربعينى خريج كلية العلوم الذى يقطع بدراجته يومياً ما لا يقل عن «60 كيلو متر» لتعليم الأطفال الصغار مبادئ القراءة والكتابة .. بجهود ذاتية كشفت لنا كيف يكون العمل الإنسانى نموذجاً يحتذى ويحتفى به أكثر من مئات الخطب والمقالات ؟.
ويبدو أن العالم أدرك مؤخراً حكمة كونفوشيوس .. الذى سأله أمير جونج يوماً أن ينقذ مدينته من أرباب السوء والشر .. فأجاب كونفوشيوس بدليل عملى قام به أيضاً دون أن يعظ الأمير.. فاستمال الصالحين ونبذ المعوجين .. فاستقام الطريق واختفت الخيانة وتوارى الفساد.. فسأله الأمير : كيف ؟ أجاب : كنت أكافئ الصالحين وأعاقب الأشرار .. فأحب الناس الخير ليكافأوا .. وتركوا الشر حتى لا يعاقبوا .. فطمع الأمير فى مزيد من المعرفة كيف بدأت بالإصلاح ؟ كونفوشيوس: الحاكم قدوة صالحة للجميع .. وأول قاعدة أيها الأمير فى الإصلاح تستدعى ألا نفعل للآخرين ما لا نحب أن يفعلوا لنا! ولم تبق إلا معضلة السعادة التى يتطلع إليها الجميع ماذا فعلت لتجعلها تسود يا حكيم الحكماء ؟ أجاب: اهتممت بالعلماء والحكماء لتعليمهم وصقل معارفهم بالمزيد .. فالناس يصعب عليهم تفهم الكلام ويملون من تكراره فيكرهونه .. لكن من السهل عليهم ومن دواعى وأسباب سعادتهم أن يجدوا مثالاً حسناً وقدوة طيبة للاقتداء بها .. فى شوق وارتياب سأل أمير جونج سؤاله الأخير : هل يستطيع الإنسان أن يحكم إقليماً كاملاً بنفس الطريقة؟ .. أنهى كونفوشيوس النقاش بتلك العبارة التاريخية بل إمبراطورية كاملة!.
أين مصر مهما تعاظمت مشاكلها وتعقدت وتفاقمت من مشاكل شبه القارة الهندية التى يشكل فيها الهندوس 80.5% من مجموع سكانها .. بينما تبلغ نسبة المسلمين 14.4% بالإضافة لأصحاب الديانات الأخرى .. ومن يلقى نظرة على الديانة الهندوسية التى يعتنقها عالمياً ما يقرب من المليار نسمة وفقاً لآخر إحصاء محدث منذ عشرة أيام .. سيفاجأ بكم التحديات الى تتفرع منها الهندوسية لآلاف المذاهب .. فالعالم خلقه (براها) الذى لا يموت .. وفى البدء جاء (مانو) أول الخلق ومن رأسه جاء أفضل الناس وأعظمهم قدسية «الكهنة» ومن ذراعه جاء «الملوك والمحاربون» ومن فخذيه جاء أرباب المهن من زراع وتجار وغيرهم ومن قدميه جاء بقية الناس الذين ينتمون إلى الطبقة السفلى .. تؤمن الهندوسية بعقيدة الاستنساخ .. فروح الإنسان تحل بعد وفاته فى جسد إنسان من طائفة أعلى من طائفته إذا كان صالحاً والعكس صحيح .. قانون المليار نسخة والديانة الرابعة عالمياً فى تعداد معتنقيها «جزاء الخير خير مثله وعقاب الشر شر مثله» .. أما «النيرفانا» فهى منزله لا يصل إليها الإنسان إلا إذا بلغ أعلى درجات الصفاء والنقاء حينها تتحد روحه مع روح الخالق «البراهما» .. تتنوع الآلهة الهندوكية من «الخالق» إلى الإله «الحافظ» لإله «التدمير» .. بل توجد آلهة من الفيلة «جاينشن» حيث تتجسد فيه الطبيعة الحيوانية للإنسان .. وإذا كنت مولعاً بمعرفة هذا العالم المجهول لنا.. يوجد أيضاً آلهة من القردة والأفاعى المقدسة ويقام لها حفل ديني سنوياً وتقدم إليهم القرابين .. فالمليار هندوسى لا يرون أن هناك فارقا بين الإنسان والحيوان لكل منهما روح .. والأرواح تمضى متنقلة بين الحيوانات والبشر .. وفى الختام تطوى كل الخلافات بالرغم من الصراعات الطائفية التى تنشب بينهم وبين المسلمين إلا أنها خفت كثيراً مقارنة بالماضى وتشهد فترات نضوج نسبى .. الدولة المليارية التى تتهيأ بكل هذه الصعوبات والتحديات الطاحنة لديها من التجارب الإنسانية وجمعيات ومؤسسات المجتمع المدنى ما يستحق الدراسة والرصد .. فلا شىء يعادل الفقر الهندى .. كل شىء فى هذه البلاد له طعم التوابل لاذع وحارق وشهى إلا الفقر .. فهو بلون الرماد الذى ينثر فى نهر الجانج بعد وفاة كل عزيز .. الهند تتأهب لعلاقات أوسع وقطعة أكبر من كعكة التجارة العالمية وهى تتقارب مع غريمتها الصين تحدياً للحكمة الصينية الشهيرة «لا يمكن لجبل أن يستوعب نمرين» لكن عقلية غاندى التى يستلهمونها عندما تشتد الأزمات تمنحهم دائماً الحل الذكى وهو : «إن الدول حينما تبدأ بتبادل البضائع فيما بينها تتوقف حتماً عن تبادل اللكمات والصراع». يمكننا أن نستلهم الكثير من تجربة الهند .. بلد الطبقات والطائفية والفقر وإجهاض النساء إذا تحدد جنس المولود بفتاة .. والكثير والكثير لكن أعجوبة هذه البلد تكمن فى قدرته الفذة على التسامح وإدارة التنوع وانتهاج الحب أسلوباً للحياة .. طوبى لمن عرف كيف يحب ويولد الحب فى قلوب الآخرين. نصيحة كونفوشيوس الغالية فيلسوف آسيا العظيم : «القلب الذى يعمر بالحب لا يخطئ» .. أما الحكيم «سيدهاتا» الذى ظل هائماً على وجهه بحثاً عن الحكمة .. رفض طريق الآلام والمسامير والزجاج المكسور .. وأدرك أن أول قانون فى الحياة يأتى : من خلال الخير والشر يأتى شر مثله، هكذا أدرك «بوذا» أى المستنير هذه الحقيقة التى ظل سنين يبحث عنها .. وسميت تلك الليلة «بالليلة المقدسة» عند اتباعه يحتفون بها سنوياً .. اللهم أدركنا طريق الخير .. فمن غير المعقول والمقبول أن تتفوق ديانات وضعية فى التسامى الأخلاقى والإنسانى – فى بعض الأحيان – فى اليابانوالصين ونيبال والهند على أدياننا السماوية بسبب سلوكياتنا، نسأل الله أن يلهمنا نحن أيضاً ليلة مقدسة نكتشف فيها الخير الكامن بداخلنا.