فى حلقة الثالث من هذا الشهر التى قدمها الدكتور على جمعة على قناة C.B.C من برنامجه التليفزيونى «والله أعلم» حاول العالم الجليل أن يمسك العصا من الوسط، فهو حائر بين الطرفين، هادئ، ومنفعل. ومتشدد ومعتدل، يشتم العلمانيين ويعمم لتنهال شتائمه على المثقفين المصريين بكافة أجيالهم. ويدافع عن الأزهر فيعمم أيضا، لأن أزهر الامام محمد عبده وتلاميذه غير أزهر الذين نكلوا بهؤلاء. والأزهر المعهد غير الأزهر السلطة. ويبلغ الانفعال بالدكتور جمعة مداه فيختنق صوته وتخضل بالدمع عيناه!وقد استغربت جدا ان يلجأ هذا الرجل الفاضل لهذا الأسلوب الذى أدى فيه على الشاشة دور المجنى عليه فى الوقت الذى كان ينهال فيه بالشتائم المقذعة على المثقفين المصريين ويرميهم بالمروق والعمل على هدم الاسلام، ضربنى وبكي، وسبقنى واشتكي!العلمانيون والمثقفون المصريين عامة لم يتعرضوا للدكتور جمعة، ولم يسيئوا إليه أو إلى غيره من رجال الأزهر، فاذا كان يخالفهم فى موقفهم من العلمانية فقد كان عليه أن يجادلهم بالتى هى أحسن، أما أن يتهمهم بهدم الإسلام فهذا إرهاب يتساوى فيه من يمارسه بعين دامعة ومن يمارسه بوجه ملثم ويد ملطخة بالدماء. ولاشك فى أن من حق الدكتور جمعة أن يدافع عن الأزهر، الذى يمثل الكثير لمصر وللمصريين، لكن ليس من حقه أن يحول الأزهر إلى ذات معصومة محصنة، أو يوحد بينه وبين الإسلام، أو يعتبر النقد الموجه للأزهر موجها للإسلام وهو بالعكس دفاع عنه. حينما نطالب الأزهر بالعمل على تجديد الخطاب الدينى لا نهاجم الإسلام ولا نسيء اليه، وإنما يسيء اليه من يحبسونه فى العصور الوسطى ويغلقون باب الاجتهاد فيه ويمنعونه من الاتصال بالعصور الحديثة والاستجابة لروحها وفهم مطالبها والاعتراف بحقوقها. وهذا بالضبط هو موضوع الصراع العنيف الذى اشتعل بين الأزهر وبين العلمانيين والمثقفين المصريين منذ بدايات النهضة المصرية الحديثة ولم يهدأ حتى الآن. لم يستطع العلمانيون حتى الآن أن يضعوا حدا للخلط بين الدين والسياسة والدولة. ولم يستطع الأزهريون حتى الآن أن يسقطوا الدولة الوطنية ويبعثوا الخلافة الإسلامية من مرقدها. التطور الاجتماعى يخدم العلمانيين لأن التعليم ينتشر ولو ببطء، والاقتصاد ينمو، والعالم يتواصل ويتوحد، ، والمرأة تتحرر، والمصالح المشتركة تحل فى التعامل اليومى محل العقائد المشتركة، وهذا هو الأساس الذى تقوم عليه الدولة الوطنية والنظام الديمقراطي. لكن الانقلابات السياسية، والعدوان الدائم على الديمقراطية وحقوق الإنسان، والأمية المنتشرة، والثقافة الموروثة تساعد كلها على الخلط الذى يتبناه الأزهر ويحصنه.. والنتيجة هى استمرار الجدل، وتبادل التهم، وعدم الحسم واللجوء إلى نوع من التوفيق هو فى حقيقته تلفيق. فالدولة بالنسبة للجنة الدستور دولة وطنية، لكنها ليست مدنية! وهى فى نظر اللجنة التى انصاعت لممثلى الأزهر والأحزاب الدينية دولة اسلامية، لكنها ليست دينية! والأمة مصدر السلطات، لكن الشريعة، - أى الأزهر - هى مصدر التشريع لا الأمة! وإذن فقد تحول الأزهر من معهد علمى إلى سلطة. أقول إن الأزهر تحول إلى سلطة. وهى عبارة غير دقيقة. لأن شيوخ الأزهر والفقهاء المسلمين عامة كانوا طرفا فى السلطة القائمة. فإن عارضها بعضهم فهذا ليس دليلا على أن هؤلاء المعارضين لا يمارسون العمل السياسي، لأنهم لا يعارضون السلطة القائمة إلا ليحلوا محلها. وقد ظن البعض أن عدم وجود كهنوت فى الإسلام منع من وجود السلطة الدينية. لا هذا وهم شائع، وإنما أدى خلو الإسلام من الكهنوت إلى عدم الفصل بين الأصل وبين الظل. بين السلطة الدينية التى تمثل الله والسلطة السياسية التى يتولاها الحكام، وإلى الجمع بينهما. فالحاكم المسلم هو ظل الله على الأرض، كما كان يسمى فى الماضي. لأنه رئيس دينى وسياسى فى وقت معا. ومن هنا كان لقبه «أمير المؤمنين» فهو ليس حاكما فحسب، وإنما هو أيضا إمام. وهذا هو الباب الذى يدخل منه الفقهاء إلى السلطة. فأمير المؤمنين الذى كان له دائما خصومه الخارجون عليه فى حاجة لمن يحولون الصراع السياسى على السلطة إلى صراع دينى ويجعلون خصوم السلطان خصوما لله. وفى المقابل كان الفقهاء فى حاجة للسلطان الذى يتبنى فتاواهم ويحولها من اجتهادات غير ملزمة إلى عقائد يوصم من يخالفها بالزندقة والخروج من الإسلام. وهذا ما فعله المأمون مع المعتزلة، وما فعله المتوكل مع الأشاعرة، وما يفعله الدكتور جمعة الآن مع العلمانيين الذين يريدون فصل الدين عن السياسة وليس إخراج المصريين من دينهم كما أدعي. والسؤال إذن، سؤال العلمانية أى فصل الدين عن الدولة مازال مطروحا. وهو مطروح بالحاح. وكل الأسئلة المطروحة علينا متفرعة منه. مدنية الدولة وتجديد الخطاب الديني، وبناء الديمقراطية، والاحتكام للعقل، وطلب العلم واحترام مناهجه، ووحدة الحضارة البشرية، والإيمان بالتقدم. فاذا كان سؤال العلمانية. مطروحا بهذا الإلحاح فلماذا لم نصل حتى الآن إلى جواب حاسم فيه؟ يقول المفتى السابق للمثقفين المصريين فى حديثه التليفزيونى جوابا على هذا السؤال أو جوابا على سؤال آخر! «لأنكم تتخذون نفس الخطة الخائبة الخائسة التى كنتم تفعلونها أواخر القرن التاسع عشر وفشلتم فشلا ذريعا ولم يخرج هذا الشعب من دينه؟!» الدكتور جمعة يعتقد أن المثقفين المصريين الذين انحازوا للعلمانية فى فجر النهضة أمثال أحمد لطفى السيد أستاذ الجيل، وطه حسين عميد الأدب العربي، وقاسم أمين محرر المرأة، وسعد زغلول قائد الثورة، وعلى عبدالرازق الذى أفسد على الأزهر خطته لتنصيب الملك فؤاد خليفة - أقول إن الدكتور جمعة يعتقد أن هؤلاء المثقفين خائبون خائسون، ولا أدرى إن كان العالم الفاضل قد قصد أن يقول خائسون أم قصد أن يقول خاسئون. وسواء قصد الأولى ومعناها الفاسدون المنتنون أو قصد الأخرى ومعناها الأنجاس المنبوذون فقد أساء القول اساءة لانرضاها له ولا نقبلها منه ولا من غيره. فإن كان قد استخدم الكلمة وهو لايعرف معناها فهى مصيبة. أما إذا كان يعرفه فالمصيبة أعظم! وهل يصدق الدكتور جمعة نفسه حين يقول إن هؤلاء المثقفين فشلوا فشلا ذريعا فيما حاولوه؟ الواقع الذى نراه ونلمسه هو أن مصر نهضت والذين فشلوا هم الذين حاربوا النهضة وحاربوا زعماءها من الحكام الطغاة وأذنابهم الذين تاجروا بالدين وسخروه لخدمة الطغيان. الدولة الوطنية قامت. والدستور أعلن. والانتخابات أجريت. والجامعة المصرية أصبحت حكومية. وطه حسين صار عميدا لكلية الآداب. والمرأة المصرية خلعت الحجاب. مع هذا يجب أن نعترف بأن هذه الانتصارات التى حققها العلمانيون والمثقفون المصريون لم تكن حاسمة. والدليل على هذا أننا لانزال حتى الآن نواجه جماعات الإسلام السياسي، ولانزال نطرح السؤال ونتهرب من الجواب. كيف نفسر ما نحن فيه؟ ولماذا فشلت العلمانية حتى الآن فى أن تتوطن عندنا وتتجنس؟ والجواب أن العلمانية ليست قرارا ولكنها ثقافة. ونحن خرجنا عمليا من العصور الوسطي، لكننا لانزال نعيش فى ثقافتها التى يتبناها الدكتور جمعة ويشتمنا دفاعا عنها والدموع تكاد تطفر من عينيه! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي