اى رصد لمسلسل الصفات التى اطلقت على الهوية يكفى للدلالة على ما علق بهذا المصطلح من التباسات وتأويلات . بحيث لم تعد تدل على ما كانت تعنيه على الأقل فى التداول اليومى والاعلامي، فهى هوية قاتلة كما يصفها الفرنسى من اصل لبنانى امين معلوف، وهى رهاب وحالة تقترب من العصاب اذا حوصرت كما يصفها الايرانى داريوش، وهى ايضا خانقة كما يتضح من معالجات مثقفين عانوا من تضخمها وفائضها على حساب انسانيتهم ومواطنتهم كما يقول د . كوثراني، ولو شئنا الاستطراد، سنجد ان هناك هويات توصف بالنيّئة او الفجة مقابل هويات ناضجة ومستكملة لكل مكوناتها، لكن اطرف ما كُتب عن الهوية فى الاونة الاخيرة كان عن الهوية اليهودية، والتى سبق ان عالجها اسحق دويتشر فى اطروحة مضادة حين اطلق على كتابه عنوان اليهودى اللايهودى ، شلومو ساند صاحب الثلاثية التى اثارت جدلا واسعا فى الاوساط اليهودية وهى اختراع الشعب اليهودى واختراع الارض واخيرا كيف لم اعد يهوديا ذهب الى اقصى التمرد سواء تعلق بالدولة او بالقدس او بمجمل ذاكرة المكان، يروى ساند حكاية طريفة عن تلميذ عربى فى مدرسة فرنسية، اسم التلميذ محمد، لكن المدرّسة الفرنسية قررت ان تغيّر اسمه الى بيير، ويبدو ان التلميذ استمرأ اسمه الجديد فعندما عاد الى البيت نادته امه باسمه فلم يُجب وحين طلبت منه شراء زجاجة حليب من الدكان المجاور رفض ذلك فاشتكته الى ابيه لدى عودته الى البيت، وحين كرر الاب النداء وطلب من محمد ان يفعل شيئا ما لم يرد عليه وكانت تلك هى المرة الاولى التى يعصى بها امره مما دفع الاب الغاضب الى ان يصفع ابنه بقبضة يتوسطها خاتم ثقيل مما ادى الى إحداث جرح عميق فى جبهته، وحين عاد محمد او بيير الى المدرسة سألته المعلمة الفرنسية عما اصابه فأجابها بعبارة تختصر كل ما يمكن قوله فى سياق الهوية كما طرحه شلومو ساند، قال لها : العرب هم الذين ضربونى . بالطبع اراد ساند ان يشرح من خلال هذه الحكاية ما جرى للهوية العربية فى اسرائيل، سواء تغيّر اسم محمد الى بيير او شلومو او اى اسم اخر، رغم ان هذا لم يحدث فى اسرائيل واحتفظ العرب منذ عام 1948 بأسمائهم وذاكراتهم وديانتهم ايضا، لكن التهويد كما الأسرلة والعَبرَنة اخذ صيغة اخرى هى استيطان ذاكرة العربى بعد تجريفها كما حدث للارض تماما، وينتهى شلومو ساند الى ان الهوية فى النهاية ليست طاقية او غطاء رأس بحيث يكفى لأى كائن ان يرتديها حتى تتحقق هويته وينتهى الامر، واذا كان اسحق دويتشر قد عوقب على اطروحته المضادة حول الهوية اليهودية بأن رفض بن غوريون مصافحته عندما التقاه فإن شلومو ساند تعرض ايضا لما تعرض له بورغ وشاحاك وآخرون عندما هُددوا بالحرمان من الدفن فى ارض الميعاد ووصفوا بأنهم عاقون، وناعقون خارج السرب الذى يغرّد بالعبرية المؤسرلة . وحين قتل هندوسى فى امريكا بسبب خطأ من اطلق النار عليه لأنه تصور انه مسلم بعد احداث 2001 فقد كان السبب هو عدم التفريق بين غطاء رأس وآخر اى بين العمامة والقلنسوة التى يرتديها الهندوسى وهذا بحد ذاته نذير مبكر لما سيؤول اليه صراع الهويات فى العالم بعد ان اندلع المكبوت الإثنى فى مواقع عديدة من هذا الكوكب، وهناك من تصوروا بأن حرب الهويات هى البديل لحرب عالمية ثالثة وقد تبدأ هذه الحرب باردة ثم تتعرض لتسخين وتوتير مدروس بعناية استراتيجية فائقة لتنتهى الى حروب اهلية تشمل قارات حتى فى الدول التى كان الانقسام فيها خلال الحرب الباردة بين يسار ويمين بدأت الهوية الطائفية تطفو على الهوية السياسية بحيث صدق المثل الفرنسى القائل اذا حُكَّت قشرة الرخام او الفسيفساء يظهر على الفور تحتها الطين وما يعشش فيه من ديدان ! ويبدو ان هناك نمطين سائدين من الهويات الان، احداهما مكتفية بذاتها ولها جذور فى التاريخ والجغرافيا والثقافة والاخرى تتأسس على اقصاء الاخر فقط، فهى ليست ذات وجود حقيقى لهذا لا بد لها ان تخترع عدوا من اجل ان تعرف نفسها على نحو سلبى بحيث تكون فكرة الهوية اليهودية مثلا مجرد مضاد ايديولوجى وسياسى للهوية العربية فى فلسطين حتى بالنسبة ليهود الصابرا الذين ولدوا وتناسلوا فى فلسطين شأن بقية افراد الشعب الفلسطينى . وفى مناطق عديدة من العالم هناك هويات يمكن القول انها قيد التصنيع او تحت المطرقة، وذلك ضمن استراتيجية تفكيك الامم التى نجحت فى تغليب هويات فرعية طائفية وجهوية على الهويات القومية . وأذكر مثلا ان يهودا من الروس كانوا قبل انشاء اسرائيل فى فلسطين يصرون على ترتيب هويتهم بحيث يكون روسيا اصلا، فهو روسى يهودي، لكن المشروع الصهيونى قلب المعادلة واصبح الروس اليهود المهجرون الى فلسطين يسمون انفسهم يهودا روس . وهناك طوائف فى العالم العربى لا تدرك فى ذروة استغراقها فى حروب الهويات انها تقدم لإسرائيل الذريعة، فحين ينشأ اقليم طائفى فى اى بلد عربى فإن ذلك بمثابة هدية مجانية تقدم لإسرائيل وتبرر لها مشروع التهويد الذى لا بد ان ينتهى الى ترانسفير واسع يخلع من تبقى من الفلسطينيين ويلقيهم خارج نهر الاردن . لقد استطاع مثقف فرنسى من اصل عربى ان يعثر على البوتقة التى تتعايش فيها عدة هويات وتؤدى الى اثراء الوعى بالتنوع، فأمين معلوف عربى ومسيحى ولبنانى لكن ذلك لا يناقض كونه يكتب بالفرنسية، فالهوية قد تضيق بحيث تخنق صاحبها اذا سجن نفسه فى شرنقة مذهب او إثنية، لكنها تتسع وتصبح ذات ديناميات استيعابية اذا تحررت من التطرف والشوفينية والانكفاء، ولدينا فى تاريخنا المعاصر مثال بالغ الكفاءة للتعبير عن الهوية القومية باعتبارها تتجاوز الهويات الفرعية، فالنهضة العربية أسهم فيها على نحو مشهود مسيحيون عرب، ومنهم من أصبحوا رموزها، لهذا فإنهم فى مصر والعراق ولبنان وسائر الوطن العربى اكثر عروبة وانتسابا الى هذه الهوية الام من هؤلاء الذين يطاردونهم ويسعون الى اقصائهم وتهجيرهم وإصمات اجراس كنائسهم . وقد يكون جورج انطونيوس مؤرخ وموثق النهضة العربية فى بُعدها القومى نموذجا، فهو مصرى مسيحى من اصل لبنانى وكان يقيم فى فلسطين، وصهر كل هذه الصفات فى بوتقة الهوية الواحدة ! لمزيد من مقالات خيرى منصور