من الصعب أن ننعى أحباءنا، وبالذات إذا كانت العلاقة بدأت منذ عقود من الزمن وترسخت فى مدينة النور باريس، عندما قابلت درية عونى النجمة الصحفية لأول مرة فى مطلع شبابى وكانت آنذاك فى قمة نشاطها وتألقها إلى أن تحولت إلى صرح إعلامى سياسى ثقافى مصقل بالتجارب الفلسفية والفكرية والانسانية.. وليجمع عليها كل من اقترب منها من المثقفين وأصحاب الأقلام الصادقة.. وعلى رأسهم الأستاذ الكبير أحمد بهاء الدين الذى نجح فى اختيارها لتحقيق إثراء ضخم الدار الهلال. وبالفعل نجحت الأستاذة فى تحقيق «خبطات» صحفية وانفرادات دولية ومد «المصور» بالرسائل والتحليلات والتحقيقات النادرة التى أعادت نشرها الفاضلة سناء البيسى خلال رئاستها تحرير نصف الدنيا لتعيد إلى الأذهان «درر» درية عونى الصحفية المتفردة والتى كانت قد اقتحمت الفضاء الإعلامى الفرنسى كأول صحفية مصرية التحقت بوكالة الأنباء الفرنسية لتشغل منصب «إريك رولو» الذى انتقل إلى «الموند» ولتخدم القضايا العربية من خلال حسها الوطنى العالي، وليتم اختيارها بالاقتراع العام أول رئيس لنقابة الصحفيين المهنيين فى فرنسا ولتقود المعارك الشرسة لنصرة الصحفيين العرب.. كانت درية أول صحفية كلفت بتغطية الحرب العراقية الإيرانية من قبل الأنباء الفرنسية وأول من نقلت للقارئ تغطية رائعة لقوات «البشمركة» أى الفدائيين فى جبال كردستان، غير مبالية بالمخاطرة بروحها، ولم ننسى أيضا جهدها المشكور خلال وساطتها من أجل الإفراج عن رهائن احتجزوا بالسفارة السعودية بباريس. جمعتنى بها المؤتمرات والمناسبات السياسية والثقافية والانسانية فى كل ناصية من نواصى وأحياء باريس وأعجبت بجرأتها وجلدها وصراحتها اللاذعة ويقظتها الفكرية وانصهارها فى المجتمع الفرنسى ولم تبخل علىّ فى أن تعرفنى على مسقط رأس الأديبة «جورج ساند» بمنطقة «البيري» من خلال استضافة أسرة ارستقراطية فرنسية مهتمة بتربية الخيول العربية الأصيلة لأصدقائها، وكانت العزيزة درية «بوصلة» عصافير الشرق من المبعوثين المصريين وكان بيتها المطل على هضبة «مونمارتر» يموج بالمستشرقين والأدباء والشخصيات العامة ولم تمن بوقتها الثمين على أى مصرية أو مصرى يزور باريس، ولقد أدركت من خلال متابعتى لها كيف تأثرت الرائدة المصرية بوالدها المؤرخ الكردى محمد على عونى مؤسس «وثائق عابدين» والذى عهدت إليه مهمة تدريس اللغة الفارسية للأميرة فوزية ... وسارت الابنة على درب والدها وليس بغريب أن يقدم فؤاد معصوم رئيس العراق التعزية الرسمية لعائلة الفقيدة، تقديرا لما قدمته للشعب الكردى. لقد تركت الكاتبة المرموقة ثروة للمكتبة العربية تتلخص فى أربعة كتب الأول حمل عنوان «الأكراد» عن دار «ابوللو»، وأهدت الثانى «عرب وأكراد.. خصام أم وئام» عن دار الهلال لأستاذها أحمد بهاء الدين كما أهدت الثالث «الأكراد عبر العصور» «إلى مصر الثورة، إلى مصر الحرة، إلى مصر الحاضنة». كما أسهمت فى فعاليات احتفالية تكريم والدها «بأربيل» عاصمة كردستان حيث أصدرت وزارة الثقافة بالإقليم كتابا بعنوان «محمد على عونىالمؤرخ والأديب الكردى - المصرى».ورحلت العظيمة درية عونى تاركه وراءها علما غزيرا وسيرة ذاتية مشرفة ورصيدا هائلا فى الصحافة المصرية والفرنسية لتصبح رمزا للشجاعة والصمود. ودرسا للأجيال القادمة من الكاتبات المصريات، ويجب أن تحتفى بذكراها نقابة الصحفيين والمجلس القومى للمرأة، فهى صاحبة مقولة «ثورة يناير أسقطت كثيرا من الأقنعة ومصر فى حالة مخاض عسير وسوف تلد قادتها»، حيث كانت درية بين النساء اللاتى مهدن لثورة 25 يناير وشاركن فى تغيير المستقبل. رحم الله الرائدة الكبيرة والمناضلة الشريفة لمزيد من مقالات عائشة عبد الغفار