الأستاذ طبعا هو هيكل الذى يمثل القيمة للصحافة والصحفيين وللفكر والمفكرين، ومشكلته أنه كبير جدا مما يغرى الصغار بتعويض شعورهم بالعجز عن الوصول إلى بعض ما وصل إليه فيجدون التعويض فى الهجوم عليه بالحق وبالباطل، وبالصدق والكذب، ويدعون أنه النقد، وهناك فرق يعرفه العقلاء بين النقد والهجوم. والصغار يعيدون ويزيدون فى القول بأن هيكل رجل كل العصور، وأنه قال فى مرحلة رأيا وفى مرحلة أخرى رجع عنه وقال رأيا آخر، وأنه أيد موقفا ثم انتقد ما حدث بعده وترتب عليه من مواقف، وهكذا. ولو أن هؤلاء النقاد الصغار تعلموا شيئا عن تاريخ الفكر والمفكرين على مدى التاريخ فيعلمون أن المفكر الحقيقى ليس قطعة من الصخر تظل جامدة وباقية على حالها لا تتفاعل مع الأحداث ولا يتغير فيها شىء. أذكر عندما كنت أدرس الفلسفة فى جامعة الإسكندرية فى الخمسينيات كان الأستاذ العظيم نجيب بلدى يعلمنا أن صاحب الفكر الحقيقى تكون لديه المرونة والقدرة على التفاعل مع كل جديد من حوله ولهذا نجد فكره يتجدد، وكان يكرر أن كل شيء يتغير فى الحياة وفى المجتمع وفى الإنسان، فأنت اليوم لست كما كنت منذ عشر سنوات، فقد تخلى جسمك عن عشرات الآلاف من الخلايا واكتسب عشرات الآلاف من الخلايا الجديدة، فلم يعد شعرك كما كان ولا لون جلدك، أما فكرك فلابد أنه نال نصيبا أكبر من التغير، فان كنت تتعلم وتعلم كل ما يجرى من حولك، وأن كنت حريصا على أن تزود عقلك بالجديد من الأفكاروالآراء والمعلومات فسوف ينعكس ذلك على تغيير فى أفكارك ومواقفك، ولهذا نجد فيلسوفا عظيما مثل كانط فيلسوف الألمان الأكبر انتهى فى كتابه «نقد العقل الخالص» الى عدم وجود الله (استغفر الله) ثم عاد بعد سنوات برأى مختلف فى كتابه «نقد العقل العملى» ليثبت وجود الله، وهذا تغير طبيعى ومنطقى ولا يجد دارسو الفكر غرابة فى هذا التحول. كذلك كان أعظم مفكرى الإسلام الإمام أبوحامد الغزالى وكتب عن تجربته فى الشك فى وجود الله وتحوله بعد ذلك إلى اليقين بوجوده سبحانه وتعالى وفى كتابه البديع «المنقذ من الضلال» درس يعلمنا أن الجحود الفكرى والتمسك بالرأى دون إعادة التفكير فيه عندما تجد أحوال أو معلومات أو أفكار أو مواقف لم تكن موجودة واستجدت، هذا الجمود الفكرى سمة من سمات الغباء والقصور العقلي.. لقد كان فيلسوف اليونان القديم يقول انك لا تنزل النهر الواحد مرتين، فى نظرك أن النهر هو هو لم يتغير والحقيقة أن مياه النهر التى نزلت فيها بالأمس ليست هى المياه التى تراها اليوم، فإذا لم تشعر بهذا التغير أو لم تدرك طبيعة الحياة المتغيرة فلديك مشكلة. مشكلة الأستاذ هيكل أنه فكر متجدد، يدرك التغيرات من حوله، ويعلم ما لا يعلمه كثيرون، ويسأل كثيرا، ويقرأ ويفهم ما يقرأ، ويتفاعل مع كل جديد، بينما غيره كثيرون توقف بهم الزمن وتجمد شعورهم بالتطور والتغير، وظنوا أنهم ليسوا فى حاجة إلى معرفة جديدة أو إلى تفكير جديد، فما رأوه بالأمس يظنون أنه باق على حاله، وما وصلوا إليه من فكر يحسبون أنه صالح للبقاء أبد الدهر.. ويريدون منه أن يكون مثلهم، هؤلاء فعلا هم الذين يعانون من المشكلة الأكبر التى ليس لها حل بينما لا يعانى الأستاذ من أى مشكلة لأنه متجدد مثل النهر وهم مثل البركة الراكدة. لمزيد من مقالات رجب البنا