واقف فى وش الريح.. ماوقفش تجديفك جيرانه يروون أسراره ونوادره الضبعية ..عشقه "هنا قرية الضبعية البسيطة .. حيث بيوت الفلاحين الريفية التى تقع بين زراعات الموالح والمانجو". هنا عاش الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى 32 عاما ليكون بجوار شقيقته المحببة إلى نفسه الحاجة فاطمة الأبنودى بعد أن نصحه الأطباء الفرنسيون بالعيش بعيدا عن القاهرة الملوثة . الأبنودى عاش وأكل وشرب وورى الثرى في هذه البلدة البسيطة وفيما بين البيوت وأشجار المانجو ومدقات الطرق ومحال الإسماعيلية البسيطة تكمن أسرار كثيرة لا يعرفها كثيرون عن الأبنودى."تحقيقات الأهرام" التقت أهالى وجيران الأبنودى لعل أبرزهم وأكثرهم تأثرا بوفاته الحاجة زينب ابنة فاطمة الأبنودى والتى قالت لنا بلهجة حزينة والدموع تغرق عينيها: "خالى الأخير مات" ربنا يرحمه ورغم شدة الحزن إلا أن الحاجة زينب راحت تروى لنا حكاية عبدالرحمن وفاطمة الأبنودى "شقيقته", فقالت خالى عبدالرحمن كان عارف إنه هيموت قريب لأن اخته الحبيبة ماتت من 3 شهور وكان بيزورها وكانت أمنيته إنها تموت قبله فسألتها لماذا؟ فأجابت لأنه قال: لو أنا مت قبليها هيه هتموت عليه هكذا كان يعشق اخته الوحيدة وكان مرتبطا بها وكانت أمنيته قبل أن يموت أن يزور قبرها ولكن المرض لم يمكنه وقال فى وصيته: اعملولى عزاء في المكان اللى اتعملها فيه عزاء في الشارع البسيط أمام منزلها لكن الأقدار شاءت أن تقيم الدولة والقوات المسلحة عزاء شعبيا ورسميا كبيرا بدار مناسبات مسجد الدوحة الذى يقع على أطراف محافظة الإسماعيلية والذى تولت القوات المسلحة ترتيب كل شىء. بيت الابنودى الحاجة زينب عادت بذاكرتها "الدبلانه" وبعد أن هدأت قليلا قالت: عبدالرحمن الشاعر والكاتب هو عبدالرحمن "بتاع التليفزيون" لكن اللى الناس ما تعرفهوش انه انسان بيحب الخير والناس الغلابة وكان بيكره "الواسطة موت" وفى الأيام الأخيرة لم نندهش انه ترك وصيته بأن اللى يقوم بتغسيله "محمود محمد مصطفى" مساعده الشخصى الذى كان يعد له الطعام والملابس.
وهنا تركت الحاجة زينب وذهبت إلى محمود وسألته إيه حكايتك مع الخال؟ فكر محمود قليلا وقال لى: لم أعرف الحكاية فأنا أحبه وعملت معه 28 عاما وكان بيسافر وبيروح ويجى وعلمنى كتير واستفدت منه كتير وكنت مخلص ليه وكان مخلص ليا دونا عن الخلق.
وروى محمود بعد أن اختنق بالحزن اللحظات الأخيرة في حياة الأبنودى فقال: ليلة الاثنين اتصلت بمدام نهال كمال زوجته وقلت لها الأستاذ بخير؟ .. فقالت لى الحمد لله انت ليه صاحى لحد دلوقتى .. قولتلها مش عارف أنام وقلقان عاوز أجى أشوفه وكان في المستشفى وأنا كنت في البلد .. فقالت لى: نام ويوم الأربعاء تعالى ولم أسترح في هذه الليلة وكأن شئ ما سيحدث فنمت حتى قبل صلاة الفجر جاءنى الأستاذ في رؤية وقال لى مالك زعلان ليه قوم غيرلى "الجلابية" علشان أنا ماشى فقمت من نومى واتصلت بمدام نهال .. فقالت لى: هو كويس وبعد عدة ساعات اتصلت بى مرة أخرى وقالت لى تعالى فورا الأستاذ بيسأل عليك, فأخذت أحد أصدقائى الذى كان يقطع الطريق بسرعة 150 كيلو مترا وفور وصولى لغرفة الرعاية المركزة أخذتنى مدام نهال إليه وخرج السر الإلهى وأنا أمامه ولم ينطق بكلمة واحدة ومات في الحال وكأنه كان ينتظرنى فاحتضنته وبكيت ورضينا بقضاء الله.
وعدت لتنفيذ وصيته بأن أقف على غسله حتى انتهاء مراسم دفنه في مدفنه بجبل مريم الذى يبعد عن قرية الضبعية نحو 3 كيلو مترات والقريب من قناة السويس.
بعد أن هدأ محمود قليلا عاد ليروى لنا بعضا من الذكريات الطويلة فتحدث عن أصدقاء الشاعر الكبير الذين ظلوا قريبين منه حتى مماته وعلى رأسهم والأستاذ محمد حسنين هيكل والكاتب الكبير جمال الغيطانى والأستاذ محمد القدال من السودان والمطرب على الحجار ومحمد منير والصحفى محمد توفيق وآخرون.
ولم يكن أصدقاء الأبنودى من المشاهير فقط فكان له صديق ولا يعرفه الناس وهو د.محمد البرشى وهو من بركة السبع بالمنوفية وكان دائم الزيارة له ورغم أنه متخصص في النساء والولادة فإنه كان يستشيره فى أموره الصحية. محمد مصطفى مغسل الابنودي
وحول طقوس الأبنودى عندما يكتب قصائده قال محمود: كان الأبنودى عندما يبدأ في الكتابة وكأنه جاءت إليه حالة فلا يرد على أحد ولا يستطيع أحد أن يتحدث إليه وكان يكتب في أى مكان وعلى أى ورق لدرجة أنه كان يجمع القصيدة على هيئة قصاصات وأغرب قصيدة عاصرت كتابتها معه كانت تلك التى أرسلها إلى شباب الثورة في ميدان التحرير والتى أحدثت ضجيجا كبيرا وألهبت الميادين فقد كتبها في غضون ساعتين رغم أنها ليست عادته فغالبا ما كان يعدل ويغير ويبدل في كتاباته, وهنا قاطعته ولكن شباب الثورة غضبوا منه عندما وصفهم بالخيانه فماذا كانت رده فعله, قال: غضب وقال لى هما ليه ماخدوش كل كلامى على محمل الجد وأخدوا سطرين وخلاص.
وأضاف محمود: أن الأبنودى كان يكره الوساطة ويرفض التدخل لدى أى مسئول لمساعدة أى شخص لا يستحق وكان يقول: أن الشخص الموهوب حتما سوف يشق طريقه وسوف ينجح وأن صاحب الوساطة سوف يسقط فى وسط الطريق, وأضاف: يجب على أى إنسان أن يكون لديه أمل فى الحياه وطموح فى المستقبل حتى ولو كان فقيرا.
وعندما سألته عن علاقة السيسى الخاصة بالأبنودى أجابنى: أنه كان داعما وعاشقا للرئيس السيسى وكان يقول أنه رجل استطاع أن يحفر لنفسه اسما في الوطنية المصرية وعندما التقى الأبنودى الرئيس السيسى قبل نجاحه في الانتخابات الرئاسية قلت له مازحا قلت للرئيس إيه فقال لى: كلمتين مهمين "خلى بالك من الناس الغلابة والشباب ولو انت بعدت عنهم أنا هكون ضدك", وظل الأبنودى مساندا للسيسى والقوات المسلحة وكان يحزن كثيرا عندما يسمع أحدا يقول لفظ "العسكر" ويقولى دول ما اتربوش ومعرفوش يعنى إيه وطنية.
سألت مغسله هل كان الأبنودى ثريا أو غنيا فقال لى: كان رجلا وسطيا يسعى للعيش من قلمه ويده, وكان متوسط الحال لا هو غني ولا ثرى ولا فقير ولكنه كان يخشى ويخاف على ابنتيه كل الخوف, ويقول أنا خايف عليهم من غدر الأيام.
وفى منزل الحاج سمير حمادة ابن شقيقته كان يتجمع مجموعة من السيدات قريبات الأبنودى اللاتى يحفظن أشعاره ويعرفن كتبه وحكاياته عن ظهر قلب فقد تكملن معنا عن أغنياته الشهيرة مثل "عدى النهار" و"ابنك يقولك يا بطل" و"عيون القلب" و"ساعات ساعات" وكذلك السيرة الهلالية و"جوابات حيراجى القط" و"الموت على الأسفلت" و"الاستعمار" و"الأرض والعيال" و"حلقات أيامنا الحلوة" التى نشرتها "الأهرام" . قريبات الابنودى
وحول عائلة الأبنودى التى لا يعرفها القارئ قالت الحاجة زينب: الأبنودى كان والده مأذونا شرعيا يجيد الشعر وكانت اخته فاطمة هى البنت الوحيدة القريبة إلى نفسه حيث كانا يشتريان مجلة "البعكوكة" بعدة ملاليم ويقرؤونها معا وكان لعبدالرحمن الأبنودى 4 أشقاء من الرجال ماتوا جميعا وهم جلال وعبدالفتاح وكانا يقيمان بالبحر الأحمر وكمال كان محاسب بالسعودية وكرم الشاعر والروائى الذى كان يعمل موظفا.