ريشة الفنان أو فرشاته كالمقشة السحرية في يد ساحرات الأساطير ينقل بها الناس الي عوالم سحرية بعيدة عنهم آلاف الأميال وقد لا يتسني لهم أن يشاهدوها الا من خلال اللوحات والرسومات ، تماماً كالساحرات في الحكايات القديمة بمجرد أن يركبن علي المقشة السحرية ينتقلن بمنتهي الحرية من مكان الي مكان وحتي الي أزمنة أخري بدون المرور علي الحواجز المادية، فعالمهم ليس له حدود، هذا ما يفعله الفن الذي ينقلنا الي أماكن بعيدة ويرصد لنا حكايات شعوب أخري وأناس يعيشون معنا علي نفس الكوكب، ولكنهم يمارسون حياتهم بطريقة مختلفة ولهم عادات وتقاليد قد تبدو غريبة في نصف الكرة الشمالي، بينما هي طبيعية وتقليدية في نصفها الجنوبي ، وقديما كانت هذه الصور أو الرسومات البديعة الدقيقة هي ما يقرب بين الشعوب ويذيب الفوارق ويثير الدهشة والفضول ويدفع الناس الي السفر راكبين البحر لأيام وأسابيع لاستكشاف هذه البلاد الغريبة والعوالم العجيبة التي سجلتها ورصدتها رسومات الفنانين والمستشرقين الذين زاروا مصر بعد نهاية الحملة الفرنسية عام 1801.وفي نهايات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، وهم كثُر، وهؤلاء الفنانون دفعهم الفضول للسفر الي مصر وأمضوا بين ربوعها العشرات من الأيام بل إن بعضهم طالت إقامته الي عدة أشهر جاب خلالها مصر كلها من شمالها لجنوبها وركب نيلها وزار كل قراها ورسم بفرشاة دقيقة كل معالم ومظاهر الحياة في كل موقع زاره وسجل الأفراح والأحزان والاعياد والاحتفالات الدينية والمعابد والآثار ووجوه الناس والمهن التي يعملون بها ... باختصار شديد قام فنانو القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بتخليد الحياة المصرية في لوحات بديعة مازالت الكتب تتناقلها حتي الآن ... فالفن حياة لا تموت .
ومن أشهر هذه اللوحات ما رسمه سميتون تيللي وهو أحد الرسامين الفرنسيين الذين يعملون بجريدة L'illustration الفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر عن احتفالات شم النسيم في مصر نقلاً عن إسكتش أو رسم كروكي لفنان آخر هو أم دارجو ... والصورة التي رسمها الفنان الفرنسي ونشرتها الجريدة تزخر بالحياة والبهجة والفرح وتمتلئ بالتفاصيل الحية التي تعبر عن واقع المجتمع المصري في ذلك الوقت ، فاللوحة موضوع هذا الأسبوع مرسومة بالحبر الأسود وبخطوط أنيقة ، رقيقة وواثقة وتقع علي مساحة 35 x 23 سنتيمتر وتحكي بالتفصيل كل مظاهر الاحتفالات التي تتم في هذا العيد المصري، وهي مرسومة في إحدي الحدائق أو المتنزهات التي كانت منتشرة في مصر في ذلك الوقت علي غرار الحدائق الأوروبية الفرنسية والانجليزية مثل متنزهات شبرا والازبكية وغيرها مما يشير الي ارتباط هذا الاحتفال بالخضرة والربيع وهي مكتظة بالبشر ( العشرات من البشر ) ولكن كل واحد فيهم يفعل شيئاً مختلفاً عن الآخر مع اختلاف فئاتهم العمرية في اللوحة شباب وأطفال وشيوخ ونساء بعضهم يجلس مضطجعاً علي حشية ويمد ساقيه للاسترخاء وآخرون يجلسون تحت خيمة للاستظلال من الشمس وآخرون يتناثرون تحت الأشجار الضخمة والنخيل وبعضهم يتناول طعامه المكون من الخضراوات والأسماك المملحة بينما يتبادلون حديثاً شيقاً والملاحظ أن أغلب الموجودين في اللوحة يجلسون كعائلات، بينما يتجول بينهم باعة الأطعمة والمأكولات والحلويات وبائع العرقسوس يصب مشروبه للمحتفلين لإطفاء نار الأسماك المملحة التي تناولوها وكذلك يبدو بين البشر سيدة تبيع الخضراوات أو الملانة التي يتناولها المصريون في هذا الاحتفال وآخر يخرج أمتعته وأطعمته من الحقيبة التي يضعها علي ظهر حماره تمهيداً لان يفترش الارض ويبدأ طقوسه الاحتفالية ، وأسرة أخري جاءت علي ظهر جمل تركته يرعي في الحديقة وفي خلفية الصورة شخص يلهو في الارجوحة التي يتم نصبها في مثل هذه الأماكن نظير قروش معدودة، بينما يدفعه بعض الأشخاص بواسطة الحبال، وفي جانب آخر من اللوحة يلهو صاحب المزمار وأحد المغنين الذي ربما ينشد أغاني حماسية، بينما يستمع اليهم البعض والأطفال يلهون ويلعبون بجريد النخيل والكلاب تهز ذيلها وترفعه بفرح وهي تشاهد هذا العدد الضخم من البشر في مكان واحد ... انها حقاً حياة .
بقي أن أقول إن شم النسيم بالقبطية هو ( شُوْمْ إنِّسِم) هو مهرجان يقام سنوياً في فصل الربيع وينسجم مع موروث ثقافي أقدم حيث كان من أعياد قدماء المصريين ، ويحتفل فيه جميع المصريين بدخول الربيع بزيارة المنتزهات وتلوين البيض وأكل الفسيح وترجع بداية الاحتفال به إلي عام (2700 ق.م) أواخر الأسرة الثالثة الفرعونية ويعتقد أن الاحتفال بهذا العيد كان معروفًا في مدينة هليوبوليس «أون». وترجع تسمية «شم النسيم» بهذا الاسم إلي الكلمة الفرعونية «شمو»، وهو عيد يرمز إلي بعث الحياة، وكان المصريون القدماء يعتقدون أن ذلك اليوم هو أول الزمان، أو بدء خلق العالم ، وأضيفت إليه كلمة «النسيم» لارتباط هذا الفصل باعتدال الجو.
وقد تحول الاحتفال ب «شم النسيم» علي مر السنين إلي مهرجان شعبي، تشترك فيه طوائف الشعب المختلفة، فيخرج الناس إلي الحدائق والحقول والمتنزهات، حاملين معهم أنواعا معينة من الأطعمة مثل البيض، والخَسُّ، والبصل، والملانة (الحُمُّص الأخضر).
أما الفسيخ – أو «السمك المملح» – فقد ظهر بين الأطعمة التقليدية في الاحتفال بالعيد في عهد الأسرة الخامسة، مع بدء الاهتمام بتقديس النيل، وقد أظهر المصريون القدماء براعة شديدة في حفظ الأسماك وتجفيفها وصناعة الفسيخ ، حتي أن «هيرودوت» – المؤرخ اليوناني الذي زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد وكتب عنها - ذكر أن المصريين كانوا يأكلون السمك المملح في أعيادهم... الله علي مصر واحتفالاتها وأعيادها وناسها زمان.