كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى للمسلمين فى العمل والكسب، فقد رعى الغنم كسائر الأنبياء، ومارس النشاط التجارى الذى اشتهر به أهل مكة فى الجاهلية، وصار خبيرًا به، ولذلك اختارته خديجة رضوان الله تعالى عنها فى تجارتها لخبرته وسمعته، ثم تابع العمل والسعى فى التجارة بعد زواجه، وكان دائمًا يقدم المثل والقدوة الحسنة فى العمل، فقال صلى الله عليه وسلم: «لأن يحتطب أحدكم على ظهره خيرٌ له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه».ولقد كان هذا هو دأب الأنبياء قبله، كلهم كانوا أصحاب مهنة وصنعة، يتكسبون منها ويعيشون بما أنعم الله عليهم من ثمارها، فقد كانت سفينة نبى الله نوح ثمرة من ثمار زراعته؛ فعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان نوح ماكثًا فى قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعمل سفينة فيسخرون منه ويقولون: يعمل سفينة فى البر فكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون..». والسعى على الرزق والعمل من إحدى وظائف الإنسان الثلاث وهى عمارة الأرض، حيث إن النبى صلى الله عليه وسلم دائمًا ما كان يحث المسلمين على أن يأكلوا من كسب أيديهم، وتحرى الحلال وإتقان العمل، والذى اعتبره من الواجبات الدينية فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه»، وقدم النماذج العملية على الإتقان فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان فى كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»؛ والنبى صلى الله عليه وسلم هنا يعلمنا كيف ندير أعمالنا الاقتصادية التى تعتمد على الرقابة والجودة من خلال هذا التوجيه النبوى لصحابته، والذى يشدد عليه علماء الاقتصاد اليوم لضمان عمل ناجح وبنَّاء. ولما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينةالمنورة وجد اقتصادها بحاجة شديدة إلى النهوض به، فقد كان اليهود يحتكرون موارد التجارة ويتلاعبون بالأسعار ويتعاملون بالربا، وعامة أهل المدينة بين مزارع وراع للشياه والإبل أو صياد أو جامع حطب، فعمل النبى على النهوض بهذا الاقتصاد من خلال أمرين، توفير الموارد وبناء الإنسان القوى جسدًا وروحًا، إلى أن تحقق له ذلك فأقام فى المنورة كيانًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا مستقلاًّ لتحقيق هيبتها داخليًّا وخارجيًّا، فقد أعانته -صلى الله عليه وسلم- خبرته التجارية كثيرًا على تنظيم الشئون الاقتصادية والتجارية، وأظهر روح التشريع فى معالجة بعض الأزمات الاقتصادية. وهنا تتعاظم الدعوة إلى الاستثمار والبناء- خاصة أن مصر تشهد مؤتمرًا اقتصاديًّا مهمًّا- وهذا يجعلنا أمام مسئولية كبيرة لدعم الاقتصاد الوطني، وتضافر الجهود من أجل مساندة الوطن، لذا نشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضَّ على استثمار الأموال وتجنب الاكتناز، فقال صلى الله عليه وسلم: «اتجروا فى أموال اليتامى حتى لا تأكلها الصدقة»، فقد حضَّ على الاستثمار الحلال بالصيغ الاستثمارية الحلال، مثل المضاربة والمشاركة والمزارعة والمساقاة ونحو ذلك، وطبق ذلك عمليًّا فى حياته حيث شارك السيدة خديجة رضى الله عنها فى التجارة بنظام المضاربة قبل الإسلام. ونحن إذا نسوق بعضًا من هدى النبى صلى الله عليه وسلم فى الجوانب الاقتصادية فى هذا التوقيت إنما نريد التوعية وتأكيد على أن نهوض الاقتصاد وتعافيه لا يقتصر نفعه على أحد دون أحد إنما نفعه يعم الجميع، وإذا كانت هناك خطوات يجب أن نلتزم بها فلا بد من تطبيقها، وإذا كانت هناك سلوكيات خاطئة يجب أن نتجنبها علينا أن نتجنبها رغبة فى الصلاح والإصلاح. وحينما نبحث فى السيرة النبوية العطرة نلحظ أن مبدأ المؤاخاة الذى أرساه النبى صلى الله عليه وسلم فى المدينةالمنورة كان له عظيم الأثر فى بناء اقتصاد المدينةالمنورة والنهوض به، فقد كانت هذه الأخوة قوية لدرجة أن الأنصار قسموا أموالهم قسمين بينهم وبين المهاجرين، لكن وقتها ضرب المهاجرون المثل فى الجد والاجتهاد والعمل بخروجهم إلى السوق للتجارة والعمل والتكسب من عمل أيديهم، ولقد قامت عملية مزارعة كبرى فى المدينة أعقبتها حركة إحياء للأرض الزراعية المهملة، وفقًا للقاعدة الشرعية التى وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا مواتًا فهى له». كما أن النبى صلى الله عليه وسلم فى سعيه لإقامة اقتصاد قوى للمدينة أنشأ سوقًا خاصة بالمسلمين بأطراف المدينة، ووضع لها الضوابط والأخلاقيات التى تحكمها، وذلك لتوفير فرصة الكسب والتجارة للمهاجرين، ولقد كان حرصه على التنمية الاقتصادية فى المرتبة الثانية بعد بنائه للمسجد الذى يمثل العقيدة والأمن الروحي، ولكى تكون هذه السوق ملبية لكافة احتياجاتهم، واختار لها المكان المناسب وقال: »هذا سوقكم لا تتحجروا ولا يضرب عليه الخراج«؛ أى لا تضيقوا ولا تحتكروا فى السوق. كان هذا هو منهج النبى صلى الله فى التنمية وإعداد الإنسان لوظيفة عمارة الأرض، وكان هذا هو منهج أصحابه رضوان الله تعالى عليهم من بعده، فقد تولوا أمانة تدبير شئون الأمة من بعده. لمزيد من مقالات د شوقى علام