اشرت في مقال سابق إلي أن خرائط الطريق للنهوض التي رسمها المفكرون العرب خرائط كثيرة تستعصي علي الحصر, تنتظر تحركا من أهل السلطة والنفوذ لتنفيذ واحدة منها, وضربت مثلا اقتبسته من صفحة واحدة من صفحات جريدة الأهرام, حيث وجدت في تلك الصفحة, مايمكن ان يكون وصفة كاملة الشروط لبناء مشروع النهضة, ولكن أهل السلطة والنفوذ, رغم مايقولونه عن رغبتهم في بناء النهضة, يهملون مثل هذه الأفكار ولايعيرونها انتباها, والآن بعد ان انتقل الفيلسوف والمفكر المصري فؤاد زكريا إلي الرفيق الأعلي وختم الموت مشروعه الفكري النهضوي التنويري بهذه الوفاة, فإنه يقدم لنا مثلا لما يمكن ان يكون مشروعا كاملا للنهوض لمن يريد ان يستفيد من هذه الأفكار ويضعها موضع الممارسة والتنفيذ, كما فعل لينين او ماوتسي تونج مع افكار كارل ماركس, ورغم أن فؤاد زكريا لم يكن معنيا بتقديم نظرية للحكم, ولم يكن ممن يسيطر علي اذهانهم طرح ايديولوجي معين وكان فيلسوفا واستاذا للفلسفة معنيا بمحاورة افكار المفكرين والفلاسفة والتعاطي معها نقاشا وتفاعلا, وتأييدا وتفنيدا لبعض أوجهها وتقديمها لطلابه في مختلف الجامعات التي قام بالتدريس فيها, وعرضهاومناقشتها في الكتب, أو في الصحف التي كان يلتقي مع القراء عبر أعمدتها أو يتولي رئاسة تحريرها, وله اسهامه الخاص والشخصي واضافاته لهذه الافكار والفلسفات, وفوق هذا وذاك لم يكن محصورا في عوالمه الاكاديمية, ولكنه كان رجل اهتمامات عامة بكل معاني الكلمة.. شارك وساهم بالرأي والكلمة في معظم القضايا الثقافية والسياسية التي انشغل بها الرأي العام وكتب الردود واعتني بمحاورة افكار أهل السلطة بصراحة ووضوح, ودون لبس مهما كانت اقدار الناس, كبيرا كما كان الحال وهو يناقش افكار الاستاذ هيكل وافكار الراحل الكبير مصطفي محمود وافكار علماء الدين امثال الشعراوي والقرضاوي والغزالي ويناقش من خلالهم اطروحات احتكمت اليها السلطة مثل تلك التي احتكمت اليها في عهد عبد الناصر, ثم في عهد الرئيس السادات, ولم يكن بعيدا عن نبض القضية الفلسطينية حريصا علي ان يدلي برأيه الذي يصحح به بعض المسارات أو يلقي من خلاله نورا علي بعض الزوايا المعتمة في القضية, بمثل ماكان منافحا عنيدا عن افكار التنوير والعقلانية والمنهج العلمي في التفكير ضد اقلام تروج للجهل والخرافة, ومهاجما قويا لأفكار التطرف وأهل المغالاة من ظلاميين وتكفيريين. ويكتشف المتابع لافكار فؤاد زكريا انه شديد الالتزام والصرامة فيما يتصل بالقواعد الاخلاقية والنزاهة والضمير, وكنت أكبر فيه امانته العلمية وعمق وحصافة ما يطرحه من آراء وأفكار, وكان قد أصيب منذ عدة سنوات بجلطة نقلت اخبارها الصحف وخشيت ان تعطل تلك الجلطة عقلا كبيرا عن العمل رغم بقاء صاحبه علي قيد الحياة وفرحت عندما عرفت ان الجلطة التي تركت فيه اثرا بالغا في النطق والحركة, لم تصل الي عقله وظل عقله يعمل بكفاءة وعمق كما كان دائما, واسرعت الي رئيس تحرير الأهرام الاستاذ أسامة سرايا انقل له خبر التقائي بالفيلسوف الكبير وسعادتي بان وجدته في أرقي لياقته الفكرية راجيا منه الحرص علي منح مساحة لهذا العقل الكبير يطل منها علي قاريء الأهرام بشكل منتظم ورحب رئيس تحرير الأهرام بالاقتراح ونقلت موافقته للصديق القريب من الدكتور زكريا وجاره في البيت الدكتور عاطف العراقي وقرأت عدة مقالات في الأهرام للراحل الكبير, ولكن مقالاته لم تكن بالتواتر والانتظام الذي كنا نأمله ربما لظروفه الصحية, المهم, وقد غادرنا استاذنا الكبير, فإنني علي يقين ان افكاره واطروحاته تشكل خريطة طريق لمشروع نهضوي عربي متكامل الاركان, وينتظر واحدا من خلصائه او تلاميذه يقدمه لنا في تصورات عملية قابلة لوضعها موضع التطبيق كخريطة طريق للنهوض وتحقيق فرص التقدم لوطنه مصر وللوطن العربي, لمن يريد ان يستفيد من مفكر رائد وفيلسوف تنويري من اصحاب المدارس الحديثة في التفكير, ولا ادري ان كنت أستطيع في هذا الحيز الصغير ان اقدم الخطوط العريضة لهذه الخريطة التي يقترحها علينا فكر هذا الفيلسوف المصري المشبع بحب بلاده ووطنه وامته. وابدأ بذكر سؤال سمعته يطرح علي الراحل الكبير في احدي الندوات ويتصل بنقده للحقبة الناصرية عن كيف يهمل الجوانب الايجابية الكثيرة التي تتصل بالانتصار لقضايا العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل لثروة المجتمع ومجابهة الاستعمار والتحالف مع القوي العالمية المعادية للامبريالية ويقوم بشجب المشروع الناصري كله علي خلفية غياب بعض الحريات الشخصية والعامة, مثل حرية التعبير, فتصدي الدكتور فؤاد زكريا للرد قائلا بانه يعتبر هذه الحريات العامة والخاصة هي الجوهر الذي يقيم علي اساسه تقويمه للحكم, فمع غيابها تغيب اي شرعية أو صلاحية للحكم وبحضورها تحضر الشرعية ويحضر الرشد والصلاح, اذن فالحرية بكل معانيها حرية الوطن وحرية المواطن وحرياته التي تتصل بالتعبير والتفكير والاجتماع وحق اختياره لممثليه عن طريق الاقتراع ومساهمته في القرار عن طريق الانتخابات الحرة وتداول السلطة, هو مايشكل جوهر مشروعه في إدارة المجتمعات والاوطان, وهذه الأفكار هي ما اجاد صياغتها في كتابه كم عمر الغضب الذي رد فيه علي كتاب الاستاذ هيكل خريف الغضب, وتضمن نقدا للتجربة الناصرية ومارآه يشوبها من حكم الفرد وغياب للرأي الآخر مؤكدا الحكم الليبرالي الديمقراطي الذي يقوم علي الفصل الواضح والصريح بين السلطات. وقد كان الراحل الكريم كما نعلم منافحا كبيرا عن العلمانية وخاض من أجلها معارك كثيرة, وادار من أجلها ندوة مع شيخين من شيوخ الدين هما الشيخ القرضاوي والشيخ الغزالي عنوانها الإسلام والعلمانية, كان فيها ممثل العلمانية, ويرفعها شعارا يقول العلمانية هي الحل مقابل شعار الإسلام هو الحل, وهي دعوة الي الفصل بين الدين والسياسة دون ان يعني ذلك أبعادا للدين أو نكرانا لعامل الإيمان في حياة البشر مع رفض لسيطرة الفكر المادي علي الحياة بل اكبار وتأكيد للقيم الإنسانية والمعنوية, وأكد هذه المعاني في كتابه الصحوة الإسلامية في ميزان العقل وبعض ماكتبه من ردود علي الشيخ الشعراوي والدكتور مصطفي محمود, حيث دعا في رده عليهما وعلي غيرهما ممن يري في كتاباتهم اهمالا للمنطق العقلاني في التفكير إلي أهمية إعمال العقل في كل مايحيط بنا وعدم الانصراف الي مفاهيم ثابتة وقوالب جاهزة جامدة في الفكر تحول دون أن ينمو العقل ويتطور ويتقدم ويتجدد بتجددالأيام, وإنصافا للمفكر الراحل ساعود في فرصة مقبلة لعرض بقية أفكاره عن النهوض والبناء الحضاري للاوطان والمجتمعات. [email protected]