تتابعت المناهج النقدية فيما قبل الحداثة , ثم الحداثة وما بعدها , وهناك ماجد فى الثقافة العالمية عن مرحلة : ( بعد ما بعد الحداثة ) بدءا بالكلاسيكية ثم الرومانسية فالواقعية . ثم جاءت الحداثة مع البنيوية وتوابعها , وجاء مابعد الحداثة مع ظهور التفكيكية والقراءات الثقافية , أما ( بعد ما بعد الحداثة فقد فاجأ المجتمع الثقافى بمقولة (الانعكاس) التى أعادت للتراث أهميته بوصفه مصدر إنتاج لما جاء بعده من مراحل , وهذه التحولات المتتابعة كانت دافعى إلى هذا المقال كى أطلّ على الواقع الثقافى العربى فى لحظة الحضور الغائمة التى يعيشها بكل مافيها من إيجابيات أو سلبيات . فهناك ظواهر لافتة فى الواقع الثقافى , منها ماهو إيجابى , ومنها ما هو سلبى , لكنى ألقى مسئولية السلب على من اتجهوا إليه أولا , ثم على الجيل الإيجابى لسكوته عن تعريتهم ثانيا . وأبدأ بالظواهر الإيجابية التى أنجزها جيل الريادة الحداثية العظيم من أمثال الدكاترة عبد السلام المسدي, وشكرى عياد وعز الدين إسماعيل وصلاح فضل وجابر عصفور وعبد الملك مرتاض وكمال أبو ديب , وهؤلاء تحملوا مهمة نقل ثقافة الحداثة من الغرب إلى الشرق العربى , وكانت معظم إنجازاتهم فى الجانب النظرى , وما أن فرغوا من هذا الإنجاز حتى أقدموا على تطبيق هذه التنظيرات على النص العربى , فواجهتهم بعض المصاعب, لأن أدوات نقد الحداثة مستمدة من نص غير عربى , وتطبيقها على النص العربى فى حاجة إلى تطويع هذه الأدوات لتلائم هذا النص من ناحية , وتطويع النص العربى ليتمكن من استقبال هذه الأدوات من ناحية أخرى , أى أنهم يعقدون مصالحة تطبيقية بين المنجز الوافد والنص العربى , ومن ثم أقدم جيل الريادة على خطوة بالغة الأهمية , وهى التحرك من ( نقل الثقافة النقدية ) إلى ( إنتاج ) هذه الثقافة, فقدم المسدى دراساته التطبيقية على الشابي, وقدم صلاح فضل تطبيقاته الشعرية فى كتابه : (أساليب الشعرية المعاصرة ) وتطبيقاته السردية فى كتابه ( أساليب السرد فى الرواية الحديثة ) وقدم جابر عصفور تطبيقاته الشعرية فى كتابه (عوالم الشعرية المعاصرة ) ثم كتابه ( الهوية الثقافية والنقد الأدبي) وقدم محمد الهادى الطرابلسى دراسته عن (الشوقيات ) وقدم كمال أبوديب دراسته (جدلية الخفاء والتجلى ) . هذا الإنجاز الذى قدمه جيل الريادة كان بين يدى جيل الشباب من النقاد , وكان المأمول أن يكملوا مهمة الجيل السابق , لكن المؤسف أنهم تراجعوا للوراء بدلا من أن يتقدموا للأمام , إذ عادوا إلى مرحلة نقل الثقافة , يجترون المقولات النقدية التى ترددت فى سبعينيات القرن الماضى ,ولعلهم فى هذا التراجع كانوا يسعون إلى قطيعة مع جيل الريادة, ظنا أن هذه القطيعة تعطيهم خصوصية واستقلالا , ويبدو أن هذا التراجع لم يكن بهدف إحداث قطيعة مع الجيل السابق فحسب , بل الذى أرجحه : أنه مع الرغبة فى القطيعة كان هناك نوع من الكسل العقلى , لأن هذا الجيل وجد أمامه إنجازات نظرية وتطبيقية لم يكن له عهد بها , ولم يكن مهيئا لاستقبالها, وبخاصة (التحليلات الثقافية ) فآثر الرفض تحقيقا للمقولة التراثية : (من جهل شيئا عاداه ) . ولم ينحصر السلب فى هذا الكسل العقلى فحسب , بل انضاف إليه كسل آخر ساعد عليه ما قرأه جيل الشباب عن ( علم السرد ) الذى جاء لهم أشبه ما يكون ( بالوجبة الجاهزة ) , ذلك أن من قاموا بترجمة هذا العلم أغراهم ما قدمه بعض النقاد الغربيين من الإفراط الشديد فى تكثير تقنيات السرد التى كشف عنها ناقدا الحداثة ( جنيت ) و(برنس) حتى جاوزت الخمسين تقنية , وهى تقنيات عبثية أشبه بما صنعه البلاغيون العرب فى (علم البديع) الذى أوصل بعضهم تقنياته إلى أكثر من مئة وخمسين تقنية جمعت بين المحسّنات والمقبّحات , وهكذا كانت تقنيات علم السرد الوافدة التى أقبل عليها جيل الشباب بوصفها وسيلة مريحة تناسب الكسل العقلي, إذ أصبح من الميسور أن يحلل الناقد كل يوم نصا روائيا ليقول لنا : (هنا استقبال , وهنا استرجاع وهنا موقف وهنا مشهد) وهكذا أصبحت كل النصوص نصا واحدا لا فرق بين نص لإدوار الخراط وآخر للغيطانى , ونص ليوسف القعيد وآخر لإبراهيم عبد المجيد . والحق أنى لا يمكن أن أعفى جيل الريادة من بعض المسئولية عن هذه السلبيات الثقافية فى النقد الأدبى , ذلك أنهم سكتوا عن هذه السلبيات , ولم يكشفوا لجيل الشباب خطيئتهم فى التراجع إلى مرحلة نقل الثقافة أولا , ثم خطيئتهم فى كسلهم العقلى الذى دفعهم إلى رفض ما لا يعرفون ثانيا, ثم الإقدام على الإجراءات النقدية الآلية التى جعلتهم أشبه بالحرفين ثالثا . لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب