نستكمل ما بدأناه الأسبوع الماضى عن الشروط المحتم توافرها لكتابة شهادة وفاة داعش، هذا التنظيم الإرهابى الذى تتوارى الوحوش الكاسرة فى البرية خجلا من وحشيته وغلظته المتمادية فى ساديتها، والتى لم يسلم من اذاها البشر والحجر، وحددنا سابقا ثلاثة اشتراطات، هى فهم فكر وعقلية هؤلاء القتلة، وعقد قمة موسعة للمرجعيات الإسلامية والفقهاء الثقة، واستيعاب طاقات وطموحات الشباب الذين يغريهم التنظيم ويجذبهم للحاق بجزاريه. رابع وآخر الشروط أن نؤسس فى بلادنا العربية والإسلامية أنظمة ديمقراطية حقيقية مكتملة الأركان والاضلاع وليس شكلية أو مهترئة، فالديمقراطية تفتح الآفاق الواسعة الرحبة لمن يرغب فى التعبير عن أفكاره وتوجهاته بدون حجر ولا رقابة، بما فيها تلك الخاصة بجماعات الإسلام السياسى المعتدلة، والمنطلقة من قاعدة وطنية، فلا يعقل أن أسمح لأناس لا يؤمنون بالوطن من الاصل ببث سمومهم وانحرافاتهم الفكرية والدينية وإحداث بلبلة بالمجتمع وتسفر عن تفتت وتشتيت قواه وتركيزه. فالإسلاميون ظلوا وما زالوا - يروجون فى جلساتهم الخاصة ودروس مشايخهم ومنتدياتهم أنهم محرومون من الكلام والعمل السياسي، وأن الدول تحاربهم ويلاحقونهم فى كل شاردة وواردة، رغم كونهم يحملون الخير والبركة والسعادة للجموع الغفيرة فى الأمتين العربية والإسلامية، ويذرفون الدموع على حصارهم ومحاربتهم، وهو ما يدفعهم عند نقطة معينة للميل نحو التطرف والتكفير، فأصواتهم محبوسة ولا تجد من ينصت لها، فالديمقراطية تتسع لكل ألوان الطيف السياسى والدينى ما دامت لا تقوم على بعد طائفى محض، وستقطع الطريق على المزايدين والنافخين فى أبواق الكراهية والطائفية، لأنها ستكون الدرع الواقية والحائط الذى ستسقط عنده دعاوى الشطط واساءة استغلال الدين بكل قدسيته ونقائه وتفسيره بما يتناسب مع اتجاهات واعمال دعاة الدم والفتنة، من أمثال داعش. ومهم فى هذا الجانب الانتباه إلى أن الديمقراطية وتثبيت قواعدها تتطلب وتشترط القبول الفعلى والعملى لمن يخالفك الرأي، إذ إن بعضنا يفصلها على مقاسه الخاص، فحينما يتردد صدى صوته وأفكاره فهى موضع ترحيب وتهليل، اما إذا حدث العكس فالرجم والقتل المعنوى بانتظار المخالف، وذلك يعطى للمتطرفين والتكفيريين مساحات شاسعة يلعبون فيها بعقول وأذهان الكثيرين، لا سيما من الشباب الذين تنقصهم الخبرة والدراية والمعرفة بشئون الدين والدنيا. وربما كان لنا فيما تتعرض له حاليا المذيعة اللبنانية ليليان داود بيان عملى لما نود ايصاله بهذا الخصوص، فقد كتبت تغريدة خالفت التوجه العام السائد عن نشطاء أدينوا فى أحداث مجلس الوزراء، وقررت المحكمة حبسهم بعد ادانتهم، وفقا لما بين يدها من دلائل ومستندات. موقفها لم يكن مرحبا به، وانبرى من بيننا قلة تنتقدها بموضوعية واسانيد وحجج، بينما فضلت أغلبية مسلك التجريح والتطاول لكونها غير مصرية تقيم وسطنا، وأنه لا يحق لها المساس بقضايانا الداخلية. الأغلبية لم تقم وزنا لأصول الديمقراطية وحق كل شخص فى التعبير عن مواقفه، وإن كنت من الناقدين والمعارضين لها ليكن ذلك باحترام وأدب وليس باستخدام ألفاظ وعبارات يتداولها العامة فى الحوارى عندما يختلفون ويتشاجرون، ويتنابذون بأحط الألفاظ، فقد هزم انشغالنا بالرد على ليليان داود اكتراثنا بتدمير إرهابيى داعش جزءا من حضارة العراق القديمة - تراث الاشوريين فى الموصل -، وكأن تلك الآثار أصنام تعبد من دون الله، فهم كارهون للتراث البشرى ولا يقدرون منجزاته واسهاماته، وجاءوا شاهرين معول الهدم وليس البناء والتعمير والرخاء. سيخرج من يقول إن آلاف الغربيين التحقوا بداعش، وأنهم ينحدرون من دول عريقة وراسخة الاقدام فى الديمقراطية، بما يدحض وينسف الطرح السابق برمته، والرد أن هؤلاء كانوا فى معزل عقلى ونفسى عن محيطهم الاجتماعى والسياسى والثقافي، وعاشوا معظم حياتهم فى «جيتو « شيدوه وبنوا اسوارا عالية حوله، لضمان عدم اختراقه، وبالتبعية لم يتشبعوا ويتشربوا بقيم الحرية والديمقراطية والاختلاف، ووجدوا من يغسل أدمغتهم بقصص وأوهام « الجهاد المزعوم « التى حولتهم فى واقع الأمر إلى مرتزقة لا يتورعون عن سفك دماء من يقف فى وجههم، وكثيرون من المرتزقة الأوروبيين يبحثون عن مغامرات فى بلاد العجائب - الشرق الأوسط - ، ولا يعرفون اساسيات القتال المستمدة من تعاليم وسنة رسولنا الكريم الذى كان يوصى قادة الغزوات بالإحسان إلى سكان المناطق التى يغزونها، وعدم المساس بدور العبادة وصوامع الرهبان، وعدم اقتلاع شجرة أو ثمرة وغيرها من التعليمات الموضحة لإنسانية هذا الدين العظيم الذى شوه ملامحه الانسانية طالبان والقاعدة ومن بعدهم داعش، فالإسلام كان وسيظل ليوم القيامة دينا يعلى من قيمة الانسان ووجوده، ولا يعادى الحضارة والتقدم، بل يحث على طلبها ولو فى الصين . واسترجع معى كيف أن الغربيين الذين خبروا حقيقة إرهابيى داعش وخداعهم وحاولوا العودة لأوطانهم كان مصيرهم القتل فى التو واللحظة، والتنكيل بهم وبمن ساعدهم، لاحظ أيضا أنهم يركزون على فئة الشباب صغير السن مستغلين سذاجتهم وقلة خبرتهم الحياتية والعملية بما يسهل قيادتهم والتغرير بهم، لتنفيذ جرائم يشيب لها الولدان. ويلتصق بشرط الديمقراطية مبدأ العدالة الاجتماعية، فهى طوق النجاة من دسائس وألاعيب صانعى الإرهابيين، فالمتطرفون يكفرون المجتمع من بوابة غياب العدالة الاجتماعية، وطحن الفقراء والمهمشين والضعفاء، ويشددون على وجوب معاقبة المسئولين والدولة وأجهزة الأمن ومَن يعاونها، فحينما تهيئ الحكومات والأنظمة البيئة الصالحة لمد مظلة حماية المواطنين من الجوع والمرض والعوز والتهميش فتأكد أن داعش واخواته من المجموعات الإرهابية سيلفظون انفاسهم الأخيرة،، وسيلقى بهم فى مزبلة التاريخ مع من سبقهم من عتاة البرابرة والمجرمين. لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي