من الكلمات التى حرفت عن معناها الإيجابى الكريم – ككثير من الألفاظ العربية فى العقود الأخيرة – كلمة المرتزق، فمعناها فى أصل الوضع اللغوي: الباحث عن رزقه بالعمل الحلال الجاد، تقول العرب: ارتزق الرجلُ اللهَ تعالى، إذا طَلب منه سبحانه الرزق، وارتزق من تجارِته، أو حرفته، إذا تعيَّش منها، والمرتزِقةُ: أصحاب الجرايات والرّواتب المقدّرة! ومثله فى العامية (الأرزُقي)، وكذا المسترزق الذى تحدث عنه ابن زريق البغدادى فى يتيمته: واللهُ قسَّم بين الناسِ رزقَهمُ .... لم يخلقِ اللهُ مخلوقًا يضيِّعهُ لكنهم مُلئوا حرصًا فلست ترى .... مسترزقًا وسوى الغاياتِ يُقنعهُ ثم طرأ معنًى عرفى جديد (حضاري) وغبي، فقد اقتصرت دلالة كلمة المرتزقة على أولئك الجنود المدربين المساعير، الذين يحاربون فى أى جيش، من أجل المال فقط! ويقومون بمجازر وعمليات تذبيح تشيب لها النواصى وتقشعر الأبدان! وهؤلاء المرتزقة يأتون من كل البلاد، ومن كل الأعمار، وهناك سماسرة ومقاولو أنفار (متعهدو توريد) لكن بأسماء أكثر تحضرًا مثل: الإتش آر، أو الهيومان ريسورسس، أو الموارد البشرية! وهم درجات ومستويات: فالمرتزق الأبيض غير الأسود، والأمريكى أو الغربى غير الإفريقي، من حيث الراتب، ومن حيث المعاملة، ومن حيث الحرص عليه! وبمجرد أن يصل هذا المرتزق للشركة الخفية الغامضة (الإرهابية) التى اشترت روحه – بمقابل يومى أو أسبوعى أو شهري، وبمرتبات كبيرة بالعملة الصعبة - يجد من يدربه على العنف والقتل والتسلل والتطرف فى الاستهانة بالأرواح، وتزوده بالسلاح النادر المدمر: قنابل، ورشاشات متطورة، وسلاح أبيض، ومتفجرات، وأدوات تفجير، وأدوات تجسس، ونظارات للرؤية الليلية، وكل ما يعين على أداء المهمات القذرة التى استأجر للقيام بها! ولهم شركات كثيرة وكبيرة سيئة السمعة – ولا أدرى أين القانون الدولى منها، وكيف ترخَّص، ومن يديرها، ومن يدرب جنودها؛ غير أباطرة الحرب فى الدول الكبرى الإرهابية: أمريكا وبريطانيا وألمانيا وإسرائيل وغيرها، تلك الدول (الديمقراطية، المتحضرة، التى تدين الإرهاب، ولا ترى النوم يا عينى من أجل حقوق الإنسان)، وهى التى أرسلت وترسل للعديد من دول العالم المرتزقة لدعم الانقلابيين، وقلب الأنظمة، وإثارة القلاقل، وزرع الفتن، واستنبات الشرور! ومن أسوأ شركات توريد المرتزقة شركة الماء الأسود الأمريكية العالمية! Black Water Worldwide المرتبطة بمنظمة فرسان القديس يوحنا المتطرفة، والتى تأسست وفق القوانين الأمريكية التى تسمح بمصانع وشركات عسكرية خاصة، وتعرضت لانتقادات واسعة بعد نشر كتاب "مرتزقة بلاك ووتر: جيش بوش الخفي"، وقامت بفظائع ومجازر فى العراق تكشف عن مدى (تحضر) الأمريكان، و(نزاهة) جنودهم الأشاوس، و(شرف) المرتزقة الذين استعان بهم الجيش الأمريكى ودلاديله من السياسيين العراقيين الروافض! وكم اضطر أبناء المستعمرات للقتال عن مستعمريهم، وحمايتهم بأنفسهم وأرواحهم، غباء، أو خيانة، أو عمالة! هل سمعت عن الفيلق الهندى سيدى القارئ؟ إن حكايته (تقطر تحضرًا، وتعكس نفسية الإنجليز المتقدمين)، سمعتها من فم المفكر العظيم (المنسي) والكاتب الفذ الأستاذ محمد قطب متع الله به.. ومفادها أن الإنجليز (أجداد الأخ المتحضر تونى بلير، بتاع الأخلاق البريطانية) فى الحرب العالمية الثانية، كانوا يفتحون الطريق أمام جنودهم – قبل اختراع كاسحات الألغام - بقطعان من الكلاب والحمير والدواب، فإذا كان بالطريق ألغام مزروعة انفجرت فى هذه الدواب، ونجا البشر من الموت والتشويه.. ولما لم يجدوا حميرًا كافية وكلابًا، وهم يقطعون صحراء العلمين التى لا تزال مليئة حتى يومنا هذا بالألغام، اضطروا لإيجاد حل.. وبسهولة وجدوه! فقد استحمروا الهنود، وأرسلوا الفيلق الهندى المعاون لهم، يفتح لجنودهم ذوى الدم الأزرق الطريق.. بأجساد وأرواح الحمير الهنود! وبعد الوصول كتب قائدهم لرئيسه: وصلنا / لم نفقد أحدًا من جنودنا / وهلك الفيلق الهندى عن آخره! تخيل! وبلغ من استحمارهم هذا الهندى (المرتزق كرهًا) – وهم فى بلاده – أن الضابط الإنجليزى كان إذا أراد أن يركب حصانه، جاءه الهندى (ابن البلد) فانحنى ليضع الخواجة رجله على ظهره، ويركب الفرس! على كل حال فإن المرتزق - فى العادة - فاتح طريق، أو كاسح ألغام، أو كاسر للمقاومة، بحكم شراسته، وتدربه العالي، وإمكاناته العسكرية، والأسلحة التى يحملها! ونفسيته نفسية وحشية وأبعد ما تكون عن الأخلاق والقيم والدين، فهو يقتل الأطفال، ويغتصب النساء، ويدنس المقدسات، ويقتل جماعيًّا، ويدمر مساحات شاسعة، ويستخدم الأسلحة شديدة التدمير والخطر، ولا يبالى بقوانين دولية، أو محلية، ولا أعراف.. بل يستمتع بالقتل والذبح، كما رأينا من هؤلاء الأمريكان الشواذ الذين كانوا يلتقطون الصور بجانب جثث القتلى ذبحًا وهم يبتسمون ويمرحون! وكما رأينا من الصهاينة الذين أبادوا مساحات هائلة فى غزة دون أن يطرف لهم جفن! وهو غالبًا بائس يائس أو مقامر مغامر، أو مدمن شرس، ولا أشك لحظة أن المرتزقة المصريين (فى ثورة 25 يناير)، كانوا مجموعة بلطجية مدمنى مخدرات وأصحاب سوابق وجرائم تكفى إحداها للإعدام! وللمرتزق ثمنه لا شك، فاللعبة مقامرة / روليت روسي / فهو بين أن يتلقى أجرًا، أو يعود مشوهًا ذا عاهات، أو يموت فلا ينال مما اتفق عليه شيئًا.. وأزعم أنه ما دام كذلك فإنه بلا ولاء إلا للمال، أى أنه سيوالى من يدفع أكثر: خصمه الذى جاء لقتاله، أو شركته التى لم تدفع له ما يشبع نهمه! ومن المرتزقة من يعمل عينًا / جاسوسًا / مرشدًا، كالمعلم يعقوب، وشاور، وابن العلقمي، وأشباههم.. ومنهم من يعمل مقاتلاً، وهم الكثرة، القاسية القلوب، الشرسة النفوسة، الفاقدة للعقول! ومنهم من ينظِّف مكان الجريمة، وهم الأكثر دهاء ومكرًا، والأثبت قلبًا، والأقدر على المفاجأة والمراوغة! ما علىّ من هذا كله، لكن دعونى أطرق نقطة أخرى من جوانب الارتزاق: ما حكم رئيس الدولة الذى يؤجر بلده للموساد؟! ما حكم المؤسسة الأمنية (الشرطة / أمن الدولة / المخابرات)، التى تؤجر 400,000 من البلطجية والجرّاية وحاملى السنج والبلط لترويع شعبها؟ وكيف يتعامل القانون معها؟ ما حكم النظام الذى ثبت باليقين استئجاره لهجامة من راكبى الجمال والخيول، والمشاة الذين يقفون بجوار الشرطة الرسمية، شاهرين المدى، حاملين السيوف؛ لتنفيذ المهام القذرة ضد الشعب! ما حكم الرئيس الذى يرتزق ويتجسس ضد دولته وجيرانه لصالح عدوها (كالملك إياه) والذى يتقاضى من عدوه العمولات، وينسق معه أموره الداخلية، وذلك المختلس، الذى يقوم بالسرقات الاستئصالية، ويبيع الأصول لصالحه! وشيء آخر مهم: هل المرتزقة فقط قتلة وتجار حروب؟ هل يوجد مثقفون مرتزقة وأقلام مرتزقة وأحزاب مرتزقة وساسة مرتزقة؟ أليست هنالك أقلام مرتزقة مهمتها الاغتيال المعنوى للشرفاء، وتدمير الأبرياء، وخنق كل صوت حر، ووطنى شريف؟ أليس هناك إعلاميون مرتزقة يقدمون وصلات رقص للحاكم بأمره، يسبحون بحمده ويقدمون له الصلاة؟ ألم يكن هناك قضاة مرتزقة تبوأوا كراسيهم بالظلم والأحكام الجائرة؟ ألم يكن هناك أكاديميون مرتزقة خانوا العلم والأمانة والوشاح الذى يلبسونه وتحولوا لزمارين فى الحزب الوثني؟! أريد آراء قانونية، ونصوصًا دستورية، ومعايير أخلاقية فى الحكم على هذه الطائفة التى لا توجد حتى فى عالم الضباع! [email protected]