في ثلاثينيات وأربعينيات وحتي منتصف خمسينيات القرن الماضي، كانت مسرحيات نجيب الريحاني وأفلام السينما المصرية تقدم الحلول السعيدة لأبطالها البؤساء بأن يرث بعض منهم ثروة كبيرة عن طريق عم أو خال أو قريب مجهول هاجر إلي أمريكا اللاتينية أو إلي مكان ما بأعالي البحار، وكون ثروة كبيرة حتي إذا ما وافته المنية ترك ثروته الطائلة لقريبه المصري البائس الذي يعاني من شظف العيش ويجبر علي العمل مع أشخاص يقهرونه من كل الإنتماءات الدينية كحسن ومرقص وكوهين في مسرحية الريحاني الشهيرة علي سبيل المثال والتي تحولت إلي فيلم سينمائي قام ببطولته الممثل الكوميدي الشهير حسن فايق، وأخرجه فؤاد الجزايرلي عام 1954، ولا يتحرر الوارث السعيد الحظ من قهر العمل فحسب، بل ويتمكن من الزواج من الفتاة التي أحبها، ويخرج لسانه ساخرا لكل من أهانه وأساء إليه..ولم يكن أحد في أزمنة الأحلام السعيدة بالقارة المجهولة وما وراءها يسأل عن مصادر الثروات المنتظرة، فلم تكن هناك وقتها ثروات طائلة من المخدرات أو تجارة السلاح، وما صاحبهما فيما بعد من غسيل للأموال..ومع الزمن تحول الحلم اللاتيني الوردي بالثروات الوافدة إلي كابوس، وبدلا من أن يصبح مصدرا للثروة، تحول إلي مصدر لإستنزاف الثروة، فأقاليم ما وراء البحار التي يتخطي بعضها أمريكا اللاتينية في منطقة الكاريبي، وهي أربعة عشر ولاية من بقايا الأمبراطورية البريطانية التي غربت عنها الشمس منذ أكثر من نصف قرن، ولم تكتسب استقلالها بعد، أو اختارت بإستفتاء عام أن تبقي تحت السيادة البريطانية، تحولت إلي حديث الساعة في الآونة الأخيرة نتيجة للتسهيلات الضريبية والبنكية التي تقدمها، والتي تحولت إلي فضيحة دولية تورطت فيها العديد من الشركات الرأسمالية الكبيرة، بالاضافة إلي شخصيات سياسية بارزة في عدد كبير من بلدان العالم، ومن بينها مصر، نتيجة لأكبر تسريب بنكي في التاريخ كشف تواطؤ بنك اتش اس بي سي (الفرع السويسري من الأصل البريطاني للبنك) مع عدد كبير من أثرياء العالم للتهرب الضريبي، واكتناز الملايين من الدولارات بشكل سري، وتقديم المشورة لعملائه في كيفية تفادي السلطات الضريبية في العالم، ولقد بدأ هذا التسريب عام 2007 عندما اخترق خبير تكنولوجيا المعلومات بالبنك هرفيه فالسياني الملفات الخاصة بحساب العملاء، وهرب إلي فرنسا بعد اكتشاف أمره من السلطات السويسرية، مما أدي إلي أن تقوم السلطات الفرنسية بإلقاء القبض عليه قبل أن تدرك أن الملفات التي بحوزته تشمل آلاف الفرنسيين المتهربين من الضرائب، فأطلقت سراحه ووضعته تحت الاقامة الجبرية في فرنسا، وقامت بإعداد وثائق سرية بالأسماء التي احتوتها الملفات التي تم تسريبها عام 2010 تحت اشراف وزيرة المالية الفرنسية وقتها كريستين لاجارد، وتعرف هذه القوائم حاليا باسم »قوائم لاجارد«، وقدمت فرنسا هذه القوائم إلي الجهات المعنية في مختلف دول العالم، مما أدي إلي فضائح كبري واعتقالات في الولاياتالمتحدةالأمريكية واسبانيا واليونان وبلجيكا والأرجنتين، وعلي أثر ذلك دفع البنك 1،9 مليار دولار للولايات المتحدةالأمريكية كتعويض، كما تسلمت سلطات الضرائب البريطانية نفس القوائم التي كشفت أسماء أكثر من ألف بريطاني مدرجا بها، وتمكنت من استرداد أكثر من 206 ملايين دولار. ولقد قام بنشر هذه التسريبات مجموعة من الصحفيين العاملين في صحف »الجارديان« البريطانية، و »لوموند« الفرنسية، وقناة »بي بي سي بانوراما«، و »تجمع الصحفيين الاستقصائيين الدولي« في واشنطن، وتضم الملفات التي حصلوا عليها حسابات 106 ألف عميل تصل قيمتها إلي 120 مليار دولار، وتفضح الوثائق تقديم الفرع السويسري لبنك اتش اس بي سي خدماته لقيادات سياسية استبدادية ودموية معروفة وللمقربين منهم، ولشخصيات مدانة في جرائم للفساد في افريقيا، والضالعين في تجارة السلاح والمخدرات. ومن بين قائمة البلدان المائة التي تأتي منها أكبر كمية من الأموال من عملاء بنك اتش اس بي سي فرع سويسرا، يرد ذكر ثمانية عشر بلدا عربيا، هي جميع البلاد العربية بإستثناء موريتانيا والصومال وجيبوتي وجزر القمر، وتقع كل من السعودية ولبنان ومصر علي رأس القائمة، السعودية في المركز الحادي عشر (1504 عملاء و2762 حساب بنكي بقيمة 5،8 مليار دولار)، ولبنان في المركز الثاني عشر (2998 عملاء و4450 حساب بنكي بقيمة 4،8 مليار دولار)، ومصر في المركز العشرين (700 عملاء و1478 حسابا بنكيا بقيمة 3،5 مليار دولار). ويتذيل القائمة كل من اليمن في المركز الثالث والثمانين (70 عملاء و215 حساب بنكي بقيمة 193،3 مليون دولار)، وفلسطين في المركز الواحد والتسعين (55 عملاء و97 حسابا بنكيا بقيمة 184،9 مليون دولار)، والسودان في المركز السادس والتسعين (62 عملاء و209 حساب بنكي بقيمة 131 مليون دولار) أما أهم الأسماء العربية التي وردت في الملفات المسربة، فعلي رأسها وزير الصناعة المصري الأسبق رشيد محمد رشيد، وهو مذكور في الوثائق بصفته رئيس شركة »يونيليفر للشرق الأوسط وشمال افريقيا وتركيا«، وقد أصبح عميلا للبنك عام 2003، وكان المالك المستفيد لحساب مسجل باسم Lexing ton jnvestment Limiyrd ضم عشرة حسابات بقيمة 31 مليون دولار عامي 2006 و2007، متفوقا علي رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد (خمسة حسابات بقيمة 27،5 مليون)، ورجل الأعمال التونسي بلحسن الطرابلسي (أربعة حسابات بقيمة 22 مليون دولار)، والأمير بندر بن سلطان رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق (ثلاثة حسابات بقيمة 15،6 مليون دولار)، والملك محمد السادس ملك المغرب (خمسة حسابات بقيمة 9،1 مليون دولار). ولقد تسبب بنك اتش اس بي سي السويسري في حرج بالغ للبنك الرئيسي البريطاني، فصرح بأن علاقته بالفرع السويسري لا مركزية، وأنه اتخذ اجراءات عام 2011 للضغط عليه واجباره علي الإلتزام بالقوانين، ومما زاد الطين بلة هو تأكيد الموظف السابق لدي بنك اتش تس بس سي السويسري هرفيه فالسياني الذي قام بتسريبات الحسابات السرية، بأن ستيفن جراي وزير التجارة البريطاني الأسبق، والذي كان رئيسا لبنك اتش اس بي سي في تلك الفترة، كان علي علم بكل ما يحدث في البنك، وهو ما رفض ستيفن جرين التعليق عليه. وإزاء ذلك توصلت الحكومة البريطانية في شهر يونية عام 2013 إلي اتفاقيات مع عشرة ملاذات ضريبية في أقاليم ما وراء البحار، وهي برمودا وجزر فيرجن وجزر كايمان وجبل طارق وانجيلا ومونتسرات وجزر تركي وكايكوس وجيرس وجيرنسي وجزيرة آيل اوف مان، تضمنت (بروتوكلات) عالمية لمشاركة المعلومات، تعهدت هذه الأقاليم بموجبها بتسليم أربع دول من الاتحاد الأوروبي وهي المانيا وايطاليا وفرنسا وأسبانيا، بالاضافة إلي بريطانيا، البيانات التفصيلية لأصحاب الودائع متضمنة الأسماء والعناوين وتواريخ الميلاد وتفاصيل حركة الحسابات وقيمة الودائع. ودعا وزير المالية البريطاني جورج اوزبورن دول العالم الأخري إلي اتباعهم والتوصل إلي تفكيك المنظومة التي تتيح اخفاء الأصول عن الضرائب، وأنهم علي حد قوله قد أتخذوا خطوة جذرية لمكافحة التهرب من دفع الضرائب. ومن بين هذه الملاذات الضريبية أو »الجنات الضريبية« كما يطلق عليها أحيانا، تتمتع جزر كايمان بمكانة خاصة في الاسثتمار الأجنبي في مصر، حيث تحتل المركز السادس من بين الدول الأجنبية المستثمرة في مصر، وتسبق في ترتيبها دولا مثل فرنساوالولاياتالمتحدةالأمريكية وايطاليا، ،حسب مقال أسامة دياب المنشور في جريدة »الشروق« بتاريخ 14 فبراير من هذا العام، وهو أحد المقالات القليلة جدا التي نشرت في مصر بهذا الصدد رغم أهمية الموضوع والضجة التي يثيرها في العالم الآن، فإن حوالي 85 شركة اجمالي رأسمالها نحو 6 مليارات دولار من هذه الدويلات الصغيرة من أقاليم أعالي البحار، تستثمر في نحو 479 شركة مصرية يتخطي رأسمالها 12 مليار دولار، حيث يقوم رجال أعمال مصريون وغير مصريون بتسجيل شركاتهم في هذه الدويلات لتحويل أرباحهم إليها وتفادي دفع الضريبة المستحقة عليها، مما يؤدي إلي اخفاء بيانات المساهمين الحقيقيين بما فيها جنسياتهم، وتقدر »منظمة النزاهة المالية العالمية Global Tinancial Jntegrity حجم الأموال غير الشرعية المهربة من مصر بنحو 132 مليار دولار (أي ما يزيد علي تريليون جنيه مصري) خلال ثلاثة عقود من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك (1981 2010)، وتؤكد المنظمة أن هذا التقرير محافظ إلي حد بعيد نظرا لأن بعض البيانات، وخاصة الأقدم منها، غير متوفرة بالشكل المطلوب، وبالتالي فإن نصف المبلغ وقدره 61 مليار دولار، قد ضاع نتيجة لنوع من التهرب الضريبي. وتتكون كيمان التي هي الدولة الأجنبية التي تحتل المركز السادس في الاستثمار الأجنبي في مصر، من ثلاث جزر هي «جراند كيمان» و«كيمان براك» و«ليتل كيمان» وعاصمتها هي جورج تاون، وتبلغ مساحتها 264 كيلو مترا مربعا، ويربو عدد سكانها نحو 60 ألف نسمة، وتقع جنوبكوبا وشمال غرب جامايكا بالبحر الكاريبي، اكتشفها كريستوفر كولومبس في 10 مايو عام 1503 خلال رحلته الرابعة والأخيرة إلي العالم الجديد، وظلت غير مأهولة بالسكان حتي القرن الثامن عشر، وخضعت للسيطرة البريطانية مع جامايكا بموجب معاهدة مدريد الموقعة عام 1670، وتوفر جزر كايمان أقل نسبة ضريبية في العالم علي المعاملات المالية، ولا يوجد بها قانون يلزم بتجميد أرصدة المودعين الأجانب، ولا توجد قوانين تلزم بكشف الأرصدة والاستثمارات الأجنبية، وتسمح للبنوك العاملة بها بايداع أموال دون الافصاح عن مصدرها، ويعمل بها أربعين مصرفا من أكبر المصارف العالمية، وفي سبتمبر عام 2010 طرح البنك الأهلي المصري سندات دولارية بقيمة مليار ونصف دولار لشركة جديدة أنشأها بجذر كايمان (الموقع الرسمي للبنك الأهلي علي شبكة الانترنت) وتوصف كايمان رغم صغر مساحتها وضآلة مواردها الطبيعية بأنها مركز مالي عملاق يتحكم في توزيع الثروات حول العالم، كما أصبحت أيضا وبسبب قوانينها المالية مركزا للتهرب الضريبي علي مستوي العالم كله، وهو ما وجدنا أنفسنا متورطين فيه علي يد بعض رجال الأعمال المصريين، في زمن تلاشت فيه الأحلام القديمة بالثروات القادمة من وراء البحار، ليحدث العكس تماما، ونجد أنفسنا عرضة للنهب والسرقة بعمليات تهرب ضريبي تنزح ثرواتنا ومواردنا إلي ما وراء البحار. ولنا أن نتساءل عما فعلناه عندما أبلغتنا فرنسا «بقائمة لاجارد» منذ خمسة أعوام، وفي العام الأخير من حكم الرئيس الأسبق مبارك؟، وهل أتخذنا أية اجراءات بمساءلة مستثمرينا (المصريين الأجانب) في كايمان؟، وهل أطلعنا علي تفاصيل. حركة أموال السبعمائة عميل مصري أصحاب الثلاثة ونصف مليار دولار في اتش اس بي سي السويسري، والذي كان بعضهم علي مقاعد الحكم وقتها أو من المنتفعين به؟، وهل تنتبه السلطات الرقابية المالية والضرائبية وتتخذ قرارات في هذا الشأن؟.. في جزر كايمان، وكما هو الحال في أقاليم ما وراء البحار، ينشد مواطنوها نشيدهم القومي البريطاني: »حفظ الله الملكة«، ويقصد بها الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا، بينما يشدو عملاؤها الماليين بنشيدهم القومي أيضا: «حفظ الله المال» حتي لو كان مالنا الضائع الذي تم تهريبه من بين أشياء كثيرة أخري تم نهبها من مصر.