لعب التندر والتفكه ومعهما السخرية والضحك والتبسم وغيرها من مظاهر السلوك الذي يخلو من الهم والكدر دورا كبيرا في الثقافة العربية قديما وحديثا. وقد أسهمت فئة من الظرفاء في إثراء الأدب والشعر, وابتكار الصور, وتوليد المعاني واختراعها, ومنهم أبو نواس, والحسين بن الضحاك, وابن المعتز, وغيرهم ممن امتاز أسلوبهم بالخفة والرشاقة والعذوبة والطرافة. فاشتهرت أشعارهم وعرفت بهم, ووسمت باسمهم منسوبة إليهم, ولا سيما الغزل, فقيل: غزل الظرفاء علي سبيل الإعجاب والتقدير أما طائفة أخري منهم فأصبحت حياتهم ونوادرهم وحكاياتهم موضوعات تثير السخرية والضحك والتعجب, ومنها شخصيات عدة اشتهرت, يزخر بها كتاب الأغاني للأصفهاني, والهوامل والشوامل والإمتاع والمؤانسة للتوحيدي, والبخلاء والبيان والتبيين للجاحظ وكذلك رسائله, والعقد الفريد لابن عبد ربه, وطبقات الشعراء لابن المعتز والشعر والشعراء وعيون الأخبار لابن قتيبه, والأمثال للميداني, ويتيمة الدهر وثمار القلوب للثعالبي, و معجم الأدباء لياقوت الحموي, وإلي غير ذلك من كتب التراث التي اهتمت بهذه الظاهرة, ورصدت حكاياتها وإبداعاتها. هكذا تقابلنا شخصيات مثل: أبو علقمة الذي عرف بتقعره في اللغة, وجحا صاحب نوادر الغفلة الشهيرة وصاحب الدعابات التي تدل علي الفطنة أيضا, ومنهم كذلك أبو دلامة, وهو شاعر مخضرم عاصر الأمويين, وبرز في التفكه في بلاط العباسيين, خاصة في أيام المنصور والمهدي. وكان شاعرا فكها هجاء مقذعا يخاف الناس لسانه, ومنهم كذلك أبو النجم الذي نفخ في الرجز والشعر روحا جديدة, وطبع الأدب بميسم مشرق متفكه وفصل الأدب الفكاهي عن الهجاء, وأعطاه مقوماته وشخصيته, ومنهم أبو الشمقمق الذي امتاز عن سائر شعراء العصر العباسي الكثيرين بميزة اختص بها, وهي استخدام الفكاهة ليقي بها نفسه من ألم الفاقة والبؤس والشقاء, فعرف كيف يرتفع بنفسه بفضل تهكمه الساخر علي شقائه, وعلي الناس, وعلي الحياة. ومثلما استأثر البخل والبخلاء باهتمام الجاحظ في كتابه الشهير بهذه الصفة المذمومة, ومثلما تندر صاحب الأغاني علي كثير من الأدعياء والمتطفلين, فكذلك كان الحمق والحمقي والتحامق من الموضوعات التي اهتم بها العرب, وضحكوا منها وسخروا من أصحابها. وقد جاء في كتاب المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي أن الحماقة مأخوذة من حمقت السوق إذا كسدت, فكأنه( أي الأحمق) كاسد العقل والرأي فلا يشاور, ولا يلتفت إليه في أمر من الأمور, والحمق غريزة لا تنفع فيها الحيلة, وهو داء دواؤه الموت. فإذا كان البخل في رأي الجاحظ فسادا اخلاقيا في الأخلاق, فإن الحمق في رأي جمهرة النقاد والباحثين العرب فساد لا إرادي في العقل, علاجه الموت, فهو غريزة لا تنفع معها حيلة ولا طب, قال عنه المتنبي: لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها هكذا يكون الحمق نقصا في العقل والذكاء, قال الأبشيهي عنه ومن قل دماغه قل عقله, ومن قل عقله فهو أحمق, وأما صفته من حيث الأفعال, فترك نظره في العواقب وثقته بمن لا يعرفه, ولا عجب, وكثرة الكلام, وسرعة الجواب, وكثرة الالتفات, والخلو من العلوم, والعجلة, والخفة, والسفه, والظلم والغفلة, والسهو, والخيلاء, إن استغني بطر, وإن افتقر قنط, وإن قال أفحش, وإن سئل بخل, وإن سأل ألح, وإن قال لم يحسن, وإن قيل لم يفقه, وإن ضحك قهقه, وإن بكي صرخ, وإن اعتبرنا هذه الخلال وجدناه في كثير من الناس, فلا يكاد يعرف العاقل من الأحمق. نستطيع أن نلاحظ من الفقرة السابقة أن فكرة العرب القديمة عن الحماقة فكرة جامعة غير مانعة كما يقول المناطقة, فهم وضعوا فيها أو داخلها كل الصفات السلبية التي أدركوها لدي البشر جميعهم, سواء كانوا من الحمقي, أو لم يكونوا, إنها فكرة حاولت أن تفسر كل شيء, ومن ثم لم تفسر أي شيء في النهاية. فالأحمق من الناحية العقلية ناقص العقل,أي ناقص الذكاء, أو بالمصطلح الحديث متأخر( أو متخلف) عقليا. أما من الناحية السلوكية فهو:(1) يفتقر إلي الاستبصار ولا يدرك عواقب الأمور.(2) سريع الثقة بالناس.(3) كثير التعجب والاندهاش.(4) كثير الكلام(5) سريع الإجابة والاستجابة.(6) كثير الحركة والالتفات حوله.(7) عجول أو مستعجل.(8) خال من العلم.(9) متسم بالخفة.(10) والسفه.(11) والغفلة.(13) والسهو.(13) والخيلاء.(14) متبطر عند الغني, وبخيل عن السؤال, وقانط عند الافتقار.(15) ملحاح في السؤال, فاحش القول ولا يحسن الكلام.(16) لا يحسن فهم ما يقال.(17) يقهقه عند الضحك, ويصرخ عند البكاء وغيرها من تلك الصفات التي يتعلق بعضها بخصائص عقلية مثل نقص الذكاء, والمعلومات, وبخصائص سلوكية مثل الخفة, وسرعة الجواب, والقهقهة, وبخصائص اجتماعية أخلاقية مثل البخل, والفحش في القول, فإذا استبعدنا خاصية انخفاض مستوي الذكاء; وجدنا أن الأحمق في الصورة العربية هو الشخص السيئ السلوك الذي لا يلتزم بالأخلاق ولا بالتعاليم القويمة من الناحية الدينية( يقهقه عند الضحك فاحش القول إذا استغني بطر وإذا افتقر قنط- وإن سئل بخل, وإن سأل ألح), هكذا يكون الحمق فسادا في العقل, وينعكس بدوره علي فساد الأخلاق والسلوك. ومن ثم كان الحمق موضوعا للضحك والسخرية والتحذير منه. وعلينا أن نعود دائما إلي ذلك المرجع العربي الأساسي حول الحماقة, وهو كتاب أخبار الحمقي والمغفلين لابن الجوزي, وهو كتاب قادر علي إثارة الابتسام والضحك, حيث تهيمن عليه روح الفكاهة والتهكم منذ بدايته, بل بدءا من عنوانه وحتي نهايته. فعنوان هذا الكتاب كاملا هو أخبار الحمقي والمغفلين, من الفقهاء والمفسرين, والرواة والمحدثين, والشعراء والمتأدبين, والكتاب والمعلمين, والتجار والمتسببين, وطوائف تتصل بالغفلة بسبب متين. هكذا نجد أن الحماقة أو الغفلة منسوبة لأكثر من عشر من الطوائف أو المهن. داخل المجتمع حتي لا تكاد تخلو طائفة أو مهنة من هذه الصفة المزرية والمضحكة في الوقت نفسه. أما صاحب هذا الكتاب ومؤلفه, فاسمه وألقابه شديدة الطول والفخامة, بشكل يثير الابتسام, وربما الضحك أيضا, فالكتاب يعود إلي مؤلفه الذي عاش في القرن السادس الهجري( الثاني عشر الميلادي), ومكتوب علي غلافه أنه من تأليف الشيخ الإمام العالم العامل الورع الزاهد الفاضل وحيد دهره وفريد عصره شيخ الإسلام والمسلمين وبقية السلف الصالحين, أبي فرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي رضي الله عنه. هكذا يبدأ الضحك, أو علي الأقل الابتسام, منذ البداية, منذ غلاف الكتاب حتي لو لم يكن ذلك مقصودا أو مرادا من المؤلف أو الناشر. يتحدث ابن الجوزي في كتابه المهم هذا عن الحماقة ومعناها, وكيف أن الحماقة غريزة, وعن اختلاف الناس في الحمق واسماء الحمقي وصفاتهم, والتحذير من صحبتهم, والأمثال العربية الدالة علي الحمق, وذكر جماعات من العقلاء صدرت عنهم أفعال الحمقي, وأصروا عليها مناصرين لها, فصاروا بذلك الإصرار حمقي ومغفلين, وذكر كذلك المغفلين من الرجال والنساء, ومن القراء والمصحفين والمغفلين من رواة الحديث والأمراء, والولاة, والقضاة, والكتاب, والحجاب, والمؤذنين, والأئمة, والأعراب, والمغفلين المتحذلقين, والمغفلين من الوعاظ, والمتزهدين, والمعلمين, والحاكة, حتي لا تكاد تخلو فئة, أو طائفة, كما قلنا منهم. ويذكر ابن الجوزي عن ابن إسحاق قوله: إذا بلغك أن غنيا افتقر صدق, وإذا بلغك أن فقيرا استغني فصدق, وإذا بلغك أن حيا مات فصدق, وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلا فلا تصدق. كما يستشهد بما ذكره الأوزاعي أيضا حين قال: بلغني أنه قيل لعيسي بن مريم عليه السلام: يا روح الله إنك تحيي الموتي؟ قال نعم بإذن الله, قيل وتبرئ الأكمه؟ قال نعم بإذن الله, قيل فما دواء الحمق؟ قال: هذا الذي أعياني. والحمق في رأي ابن الجوزي ليس درجة واحدة; بل درجات, فبعضه قابل للشفاء بالتدريب لا بالتأديب, وبعضه الآخر غريزة لا ينفع معها تأديب ولا تدريب. وللحمق اسماء عديدة ذكرها ابن الجوزي فيما يزيد علي أربعين اسما, وقال عنها لو لم يكن للأحمق من فضيلة إلا كثرة أسمائه لكفي. ومن هذه الأسماء: الرقيع, المائق, الأزبق, الهبهاجة, الخرف, الملغ, الماج, المسلوس, المأفوك, الهنبك, الهبنق, الأهوج, الأخرق, الداعك, الذهول, الهجرع, المجع.. إلخ. وهناك نوادر كثيرة في كتب ابن الجوزي والجاحظ وغيرهما عن خلط الحمقي والمغفلين بين الاسماء والأحداث والتواريخ والشخصيات. وتدور معظم النوادر والحكايات في تلك الكتب حول أمور الدين, والمال, والجنس, والزواج, والنساء, والتلاعب باللغة, والتوريات, والتظاهر بالمعرفة وحب الظهور وإظهار الإنسان غير ما يبطن, وأيضا الرغبة العميقة في المزاح والضحك, والبحث عن بهجة عميقة مفتقدة في جوانب كثيرة من الحياة. ندعو الله ان يكفينا ويكفي مصر شر الحمقي والجهلاء والمغفلين. المزيد من مقالات د.شاكر عبد الحميد